إذا كانت حسابات قراء “اندبندنت” في البريد الإلكتروني مثل حسابي، فلابد أنها ستكون متخمة بإعلانات تتمتع بدرجة متفاوتة من الشرعية، عن سبل جني ثروة من شراء عملة بيتكوين.
ولاشكّ في أن بعض الرسائل التي تردني بالبريد الإلكتروني، وتزعم أنها آتية من جميع أنواع الأشخاص المشهورين، هي عبارة عن محاولات للسرقة. وتشتمل رسائل بريد إلكتروني أخرى أتلقاها على ادعاءات مواربة واحتيالية بشكل خاص عن تورط الحكومة الصينية في التعهد بتغطية بيتكوين. لكن، ونظراً إلى أن إيلون ماسك قد اشترى عملات بتكوين بقيمة بلغت 1.5 مليار دولار، فإن المفهوم الذي تستند إليه هذه العملة، ليس مراوغاً أو غير جدير بالثقة. صحيح أن ماسك يبدو شخصية مميزة، لكن لايمكن لأحد أن يصبح أغنى رجل في العالم بالحظ وحده، ولابد أنه يتمتع بالذكاء الكافي كي لا يقع في فخ عمليات احتيال تجري عبر شبكة الإنترنت.
ولذا سألت نفسي: “ماذا يحصل هنا؟ لابد أن ثمة شخصاً يدفع لمزود الخدمة الخاصة بي، لقاء طوفان الإعلانات التي تأتيني، وأن الشركة التي تقوم بعمليات تسويق بيتكوين تتقاضى أجوراً جيدة. هناك دخل وافر ومستمر في مكان ما يدفع هذه التكاليف. إذن ما هو هذا المنتوج التي تسعى هذه الصناعة الرابحة إلى إقناعي بالاستثمار فيه؟
لقد استمعت إلى شرح عن بيتكوين مفاده أنها مثل “حمى الذهب” Gold Rush (اندفاع الناس بحثاً عن الثروة التي مثلها المعدن النفيس) في القرن التاسع عشر. واكتُشف معدن ثمين جديد على هيئة وحدة حساب اصطناعية هي بيتكوين، التي تعتبر واحدة من سلسلة من العملات المشفرة. بيد أن من غير الممكن خلق العملة الاصطناعية ببساطة إلا من قبل “عمال المناجم”، فيما يتم التحكم بالعرض بواسطة وسائل الإنتاج من “مناجم” آمنة رقمياً (مؤمنة عن طريق تقنية بلوك تشاين، التي تحدد كل تعامل تجاري). والحقيقة أن هناك إمدادات ثابتة قدرها 21 مليون بيتكوين.
وتماماً، مثلما توجد معادن نفيسة غير الذهب، كالفضة والبلاتين، فإن هناك عملات رقمية أخرى. إلا أن بيتكوين، بمنزلة الذهب في العالم الرقمي. وتكمن قيمتها في ندرتها، وكلما زاد عدد الأشخاص الذين يطلبونها، زادت قيمتها.
وينبع الكثير من الالتباس حيال بيتكوين من حقيقة أنها أصبحت، بدءاً من الوقت الحالي تتمتع ببعض خصائص المال، ولكن ليس بها كلها. للمال غرضان أساسيان، أولهما يتمثل في مساعدتنا على إجراء تعاملات تجارية، أما الثاني فهو وسيلة لتخزين القيمة (مثل الذهب والمعادن الثمينة التي تحتفظ بقيمتها بصوة دائمة).
كانت العملات المعدنية والأوراق النقدية الأداة الأفضل لإجراء التعاملات التجارية تقليدياً. غير أنها باتت طريقة عفّ عليها الزمن نوعاً ما، بالنظر إلى المال. ففي هذه الأيام، نجري تعاملات صغيرة لدفع مبالغ آنية من حساباتنا المصرفية نقوم بها بواسطة بطاقات مصرفية “من دون تماس”. نمضي بعد ذلك صعوداً إلى تقديم دفعات أكبر بواسطة بطاقات مصرفية وائتمانية باستخدام رقم تعريف شخصي سري. ثم نتابع إلى ما بعد ذلك لنستعمل الشيكات والحوالات والتحويلات المصرفية الآمنة الأخرى. هكذا فالمال يتكوّن غالباً، في الاقتصاد الحديث، من عمليات التبادل بين الحسابات الجارية.
توجد أشكال أخرى للمال أقل ملاءمة للتعاملات التجارية أو هي موضع ثقة أقل. فنحن لن نحمل معنا عادة سبائك ذهبية إلى محل تجاري (أو حقائب مليئة بالقطع المعدنية النقدية أيضاً)، لأن ذلك غير مناسب. كما أننا لن نذهب إلى المتجر لنشتري منه بموجب قطعة من الورق، هي عبارة عن وثيقة كتبها شخص نعرفه لتأكيد أنه مدين لنا بمبلغ معين، فهذا السند غير موثوق فيه. وفي سياق مماثل، لن تقبل المتاجر أن تبيع لنا بضاعة بعملة أجنبية كالدولار أو اليورو، كي تتجنب على الأقل، متاعب التحويل إلى الجنيه الإسترليني وتكلفته. وإذا كنا نعيش في مدينة بريستول، لربما استطعنا استخدام “جنيه بريستول”، ولكن فحسب مع بضع مئات من الأشخاص وعدد قليل من المتاجر، ممن وافقوا على استعماله.
ماذا عن الدفع بواسطة بيتكوين؟ هذا غير ممكن حالياً، على الرغم من أن شركة “باي بال” [Paypal] (لتحويل المال عن طريق الإنترنت) تعمل في الوقت الراهن على تمكين الناس من القيام بذلك. في هذه الأثناء، تقبل تِسْلا (شركة السيارات الكهربائية) التعامل بعملية بيتكوين، كما أن شركة ماستركاردز للبطاقات الائتمانية تدرس فكرة استعمالها أو عملات مشفرة أخرى. ومع ذلك، من الصعب جداً تسديد حساب ما بها، لأن قيمة هذه الأخيرة تتغير بسرعة وفق معايير العملات التقليدية.
تفكر الصين، التي يعتبر نظامها للبيع بالتجزئة أكبر من نظامنا وأكثر تطوراً، بالتخلص من العملة النقدية والشيكات كلها. وستكون التعاملات التجارية إكترونية بالكامل، وتُجرى بواسطة أداة يمكن اعتبارها عملة مشفرة يساوي كل عدد من وحداتها يواناً واحداً.
إلا أن مروّجي بيتكوين ممن يبعثون إليّ بالرسائل الإلكترونية، يبالغون في توصيف ما تقوم به بكين، معتبرين أن عملتهم الخاصة ستتمتع بقيمة مضمونة من قبل بنك الصين. هذه قفزة كبيرة مضللة، وكبيرة إلى حد يجافي المنطق. إني أشكّ في أن لدى الصينين أي خطط لضمان قيمة العملات المشفرة.
والواقع أن جاذبية بيتكوين الرئيسة لا علاقة لها نهائياً بالتعاملات التجارية، وهي تكمن كلياً في كونها أداة لتخزين القيمة، مثل المعادن الثمنية. فالبدائل محدودة. إن الحسابات المصرفية آمنة، لكن عائدتها تكون عادة ضئيلة للغاية بعد التضخم. والذهب ثقيل ومتعب، كما يحتاج إلى تخزين آمن، وليست له عائدات على شكل فوائد أو أرباح.
ويحتاج التعامل بالأسهم قدراً من المعرفة بالشركات المعنية. ويتطلب العمل الفني معرفة متخصصة. أما العقارات، فمن الضروري صيانتها، كما أنها لاتُشترى وتباع على عجل من دون دفع نفقات كبيرة. ومن ناحيتها، فإن قيمة الأرض تعتمد كثيراً على التخمينات المستقلبة للمعنيين بالتخطيط في المجالس البلدية.
وكوسيلة بديلة لتخزين القيمة، تعتبر عملة بيتكوين غير معقدة وتبدو آمنة، لكن من دون فائدة جوهرية، كما لاتحقق أي دخل منتظم. وتتمثل الجاذبية الكبيرة لها في أنها تبدو آخذة بالارتفاع المطّرد من حيث القيمة، هذا إذا استثنينا هبوطاً خطيراً تعرضت له في العام 2017 وكان بنسبة 80 في المئة من الذروة التي بلغتها.
في الواقع، كلما زاد شراء بيتكوين ارتفع سعرها (باعتبار أن هناك مبلغاً ثابتاً متوفراً منها). يبدأ الناس بالتساؤل “لماذا أفوّت أنا الفرصة؟” وكلما وصل المزيد من بيتكوين إلى السوق زاد سعرها. ويمكن أولئك الذين بدأوا في التعامل بها في وقت مبكر القول لأصدقائهم إنهم جنوا ثروة، وهم فعلوا ذلك بحق. حتى أن بعضهم قد يكسب بعض المال الإضافي من خلال الإعلان عن نجاحاتهم.
وما يدعو إلى الأسف أن هذه حكاية مألوفة. وهناك متحف في أمستردام يروي قصة نوبة الحماسة المجنونة لشراء بصلات ورد “التُّولِيبْ” التي أخذت العام 1637 من الهولنديين، المعروفين عادة بالحذر والرصانة، كل مأخذ. فأقبلوا بكثرة على شرائها، ما أدى الى ارتفاع السعر بدوره تدريجياً. وهكذا كان للوزن ما يقابله من المال، وبات ورد”التُّولِيبْ” يتمتع بقيمة أكبر بكثير من الذهب.
حينذاك أخذ بعض المستثمرين يشعرون بالقلق من أن قيمة “التُّولِيبْ” باتت أكبر بكثير مما ينبغي، وبدأوا ببيع ما لديهم منه، ما أدى إلى خفض السعر وخلق حالة من الذعر. وهكذا انهارت السوق، متسببة في دمار الكثير من الذين استعملوا زهور “التُّولِيبْ” أداة تخزين قيمة مدخراتهم بدلاً من التعامل معها كورود جميلة فحسب.
لهذا، في حين لا تعتبر بيتكوين كفكرة، أمراً خطيراً بالشكل الذي يروج له بعض المحتالين عبر البريد الإلكتروني، فإنني أشك فيها كاستثمار طويل المدى. إنها لا تنطوي على المخاطرة التي قد تنجم عن إعطاء بياناتي المصرفية لأولئك الذين يتصلون بي من نوفوسيببرسك في روسيا أو مومباي الهندية، زاعمين أنني إذا لم أستجب لهم أفقد طرداً ثميناً في طريقه إليّ، أو أضيّع فرصة تجديد ميزة “آمازون برايم”، أو أتعرض للسجن من قبل “هيئة صاحبة الجلالة للضرائب والعائدات” (إدارة الضرائب في بريطانيا). إلا أن هذه العملة ليست عبارة عن آلة مضمونة لكسب المال أيضاً.
إن الزمن وحده سيحدد ما إذا كانت العملة المشفرة ستصبح ذهباً رقمياً، تُستعمل من مستثمرين أذكياء للتحوّط ضد التضخم، أو ستكون عبارة عن “توليب” رقمي بوسعه أن يُثري ثم يحول الثراء إلى فقر. أياً كان الأمر، فأنا لست عازماً على الاستثمار ببيتكوين.
(السير فينس كابل هو الزعيم السابق لحزب الديمقراطيين الأحرار، وشغل منصب وزير الدولة للأعمال والابتكار والمهارات من 2010 إلى 2015)