د. لينة بلاغي-العهد
من الصين الى الشرق الأوسط، يحاول العديد من اللاعبين الدوليين والإقليميين القيام بخطوات متنوعة تبدو متناقضة، لكنها متسارعة، وتسير على وقع عقارب الساعة الأمريكية، وقدرة الإدارة الجديدة على تسلم زمام كافة الملفات الإستراتيجية، وقدرتها على إعادة تصويب بوصلة سياساتها الدولية النابعة من شعار بايدن للمرحلة القادمة “أمريكا العظمى مجددًا” بعدما سيطر مناخ “أمريكا أولًا” باستثناء “الشرق الأوسط”، على مناخ العلاقات الدولية عمومًا في عهد الرئيس السابق دونالد ترمب.
جملة من الأسباب تنافي التأكيدات الأمريكية على ضرورة الانسحاب من الشرق الأوسط، من أبرزها المكانة الأمريكية على المستوى العالمي وأمنها القومي والإستراتيجي المرتبط ارتباطًا وثيقًا بدول الشرق الأوسط ولاعبيها.
عشية التسلم والتسليم الرئاسي في أمريكا، صدرت مؤشرات من الإدارة الأمريكية العميقة الى الدول العربية على لسان رئيسها السابق بالعودة الى مواقع الاشتباك السابقة، من خلال إعادة توحيد الصفوف العربية (تحديدًا قطر والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية) على خلافاتها المتنوعة، ومد جسور من التناغم بين هذه الصفوف وبين شبكة المتغيرات التي طالت المنطقة بدءًا من تطبيع بعض الدول العربية، آسيوية وافريقية، مع الكيان الإسرائيلي، وصولًا الى انضمام الكيان الصهيوني الى القيادة الأمريكية المركزية الوسطى، بالتنسيق الضمني على ما يبدو مع التركي الذي يجد في خلط الأوراق الإقليمية والدولية، وحاجة أمريكا الى إعادة رصف صفوف الحلفاء الأوروبيين والآسيويين والأورو-اسيويين، لحصار روسيا ومواجهة الصين سياسيا واقتصاديا، فرصة يجدها أردوغان مؤاتيه لاستعادة دور مقرب من الحليف الاستراتيجي الأمريكي على حساب حليف المرحلة الروسي.
مد الجسور وربط شبكة العلاقات الاقليمية، ما هو إلا تمهيد لمواجهة المرحلة القادمة التي يستخدم فيها المال العربي و”داعش” وأخواتها، تحت توجيه الأمريكي – الإسرائيلي لإضعاف وإشغال الآخر (محورالممانعة وروسيا) ريثما تستقر الإستراتيجيات الأمريكية في استعادة الدور كقوة قيادة دولية، وبالتالي هي مرحلة عودة الصراع الى الوكلاء، ومن المرشح أن تكون طويلة نسبيًا وموجعة عمليًا ولا سيما في الساحتين السورية والعراقية.
في السياق الشرق أوسطي، كان لافتًا جدًا الموقف الأمريكي الذي اتخذه بايدن من ملف اليمن، وموقفه من “أنصار الله”، والإصرار على إنهاء الحرب والشروع في التسوية، مع المحافظة على بعض من ماء الوجه السعودي عمومًا. لكن الإشارات الخطيرة التي حملتها تصريحات بايدن والمقربين في حكومته والتي تحاول الفصل بين النظام وشخصية ولي العهد محمد بن سلمان، ذلك من خلال الرسالة الواضحة التي حملها خبر نية بايدن اجراء اتصال مع “الملك السعودي وليس ولي العهد”، في الوقت الذي أعادت فيه بعض التسريبات الإعلامية تسليط الضوء على شخصية محمد بن نايف، ما يلمح لمتغيرات في المملكة، من أبرزها اخراج محمد بن سلمان من المشهد العام السعودي، ما يحفظ الصورة الأمريكية “الديموقراطية” التي يعمل بايدن على استعادتها دوليًا وامريكيًا، ويحفظ النظام السعودي بعنوانه لاعبًا أساسيًا في الإقليم ماليًا – معنويًا – وجغرافيًا، الى جانب أنه من غير المستبعد أن يكون إخراج محمد بن سلمان مطلبًا قطريًا كمقدمة للثقة بإعادة العلاقات بين البلدين الشقيقين.
إن الموقف الأمريكي الجديد من اليمن، واعتباره أولوية أمريكية كما قال وزير خارجية البيت الأبيض انتوني بلينكن، والإدانة الضعيفة للردود اليمنية على الاعتداءات السعودية الأخيرة، كلها ترجح سناريوهين أمريكيين، الأول، سحب الملف من التداول في أي معركة مستقبلية قد تقع في المنطقة، أو أن يتحول الى جبهة عسكرية أو خاصرة رخوة لدول التحالف المرتقب، لا يستهان بها برًا وجوًا وبحرًا، وعائقًا في وجه المشروعات الأمريكية – الإسرائيلية في البحر الأحمر وبحر العرب، بدءًا من كونه مشرفًا على مضيق باب المندب، مرتع الناقلات التجارية والعسكرية ذهابًا وايابًا، وقدرته بالتالي على خنق أحد أهم الممرات العالمية في هذا الإطار أو على الأقل تهديدها، أسوة بمضيق هرمز في الخليج الفارسي وامداداته من الطاقة، وصولًا الى المحيط الهندي دون أن ننسى طبعًا الثروات اليمنية من الطاقة والمواد الأولية.
ومن المحيط الهندي ننتقل الى السيناريو الثاني، حيث يشكل اليمن نقطة أساسية من نقاط محاصرة الصين بحرًا في مشروع “الحزام والطريق” والذي يمثل الإستراتيجية الكبرى للصين، حيث تشكل بعض موانئ اليمن نقطة استمرارية لروح الإستراتيجية الصينية الكبرى (على غرار جيبوتي ولكن اليمن أكثر دينامكية) والذي يفتح أمامها مضائق وأقنية (السويس) وجغرافية القارات الثلاث عبر البحر الأبيض المتوسط، كلاعب استراتيجي ذي ثقل فيها وفي جغرافيتها، الى جانب المفعول الرجعي الذي يمكن أن تحققه الصين في مسأله علاقاتها المتوترة مع الهند، الحليف الإستراتيجي الطبيعي لأمريكا، في نزاع شرق آسيا.
سيناريوهان لا يتعارضان في المضمون والتوجه العام، لكن تأثير الأول أكثر إقليميا أي متوسطيًا، أما الثاني فيتوافق والأجندة الامريكية باعتبار أن الوقت قد حان لمواجهة حقيقية مع الصين ستظهر بوادرها وملامحها الواضحة أواسط الربيع القادم. من هذا المنطلق يمكن فهم الحاجة الأمريكية لتغيير حقيقي في وجهها الدولي وتموضعها خلف المملكة في حربها ضد اليمن، لأن مجريات اليمن من شأنها أن ترسم جزءًا من توليفة النظام الدولي المرتقب.