عادل رفيق -المعهد المصري للدراسات
مقدمة
تضم هذه السلسلة مقالات رأي وتحليلات كان بعض أعضاء إدارة الرئيس الأميركي بايدن قد قاموا بنشرها على فترات متفاوتة حول قضايا متعددة. وقد قام المعهد المصري بترجمة هذه المقالات والتحليلات، للوقوف على ملامح وتوجهات سياستهم الخارجية وقضاياهم الأساسية
كاثلين هيكس
شغلت كاثلين هيكس منصب نائبة الرئيس الأولى ثم رئيسة مركز هنري كيسنجر للشؤون العالمية، وكذلك عملت مديرة لبرنامج الأمن الدولي في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، حيث يضطلع برنامج الأمن الدولي التابع لمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية بواحد من أكثر برامج البحث والسياسة طموحاً في مجال الأمن، كونه يضم أكثر من 50 موظفاً مقيماً مع شبكة واسعة من الشركات التابعة غير المقيمة. وتشغل هيكس الآن نائب وزير الدفاع الأمريكي في إدارة الرئيس جو بايدن.
والدكتورة هيكس كاتبة ومحاضرة في شؤون الجغرافيا السياسية والأمن القومي والدفاع. وعملت في إدارة أوباما كنائب رئيسي لوكيل وزارة الدفاع للسياسة ونائب وكيل وزارة الدفاع للاستراتيجية والخطط والقوات. وقادت هيكس عملية تطوير التوجيه الاستراتيجي للدفاع لعام 2012 ومراجعة الدفاع الرباعية لعام 2010. كما أشرفت على التخطيط للطوارئ في وزارة الدفاع وتخطيط الحملات ومسرح العمليات. ومن عام 2006 إلى عام 2009، عملت الدكتورة هيكس كباحث أول في برنامج الأمن الدولي التابع لمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية. ومن عام 1993 إلى عام 2006، عملت هيكس كموظفة مدنية مهنية في مكتب وزير الدفاع، وترقت من متدربة في الإدارة الرئاسية إلى الخدمة التنفيذية العليا.
عملت الدكتورة هيكس رسمياً كباحث في مركز كيسنجر للشؤون العالمية، كلية جونز هوبكنز للدراسات الدولية المتقدمة. وعملت أيضاً في مجالس المستشارين لمركز ترومان وجولدجر سترونج وعضو في مجلس العلاقات الخارجية. وعملت الدكتورة هيكس كذلك في اللجنة الوطنية لمستقبل الجيش ولجنة استراتيجية الدفاع الوطني. كاثلين هيكس حاصلة على الدكتوراه في العلوم السياسية من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وماجستير في إدارة الأعمال من جامعة ماريلاند، وشهادة البكالوريوس بامتياز مع مرتبة الشرف من كلية ماونت هوليوك. وقد حصلت على جوائز الخدمة المتميزة من ثلاثة من وزراء الدفاع ورئيس هيئة الأركان المشتركة وحصلت على جائزة التميز القيادي لرابطة النساء المحترفات العليا لوزارة الدفاع لعام 2011.
تُعتبر هيكس منفتحة على تغيير تقاليد ميزانية الدفاع من أجل دفع النشاط المشترك. وفي ضوء التقبل العام في دوائر الدفاع بأن تبقى ميزانية البنتاغون ثابتة في أحسن الأحوال، إن لم يتم تخفيضها، خلال السنوات القادمة، فقد طرح أعضاء مجلس الشيوخ على هيكس عدداً من الأسئلة حول كيفية دفع الإصلاحات وإيجاد مدخرات للوزارة. ورداً على ذلك قالت هيكس إن هيكل الحوافز يجب أن يتغير، لا سيما للموظفين العامين وكبار الموظفين المدنيين، من أجل التركيز على العمليات المشتركة. وخلال جلسة تأكيد التعيين الخاصة بها في الكونجرس، عرضت هيكس دعم التحديث النووي وكذلك الثالوث النووي. وقالت أيضاً إنها ستتقيد بتعليمات أوستن وبايدن بشأن مسائل السياسة النووية. وبما أنه من المتوقع أن تقترح إدارة بايدن ثبات الإنفاق الدفاعي، فقد قالت هيكس للمشرعين إنها تعتقد أنه يمكن تقليص الميزانية دون التضحية بالأمن القومي. وقالت هيكس، التي سيراجع مكتبها الصفقات التي تنطوي على قضايا الأمن القومي، إنها قلقة أيضاً من الاندماج في القاعدة الصناعية الدفاعية وأن المنافسة مطلوبة للجيش الأمريكي للحفاظ على التفوق على الصين وروسيا.. وفي هذا السياق يأتي مقال هيكس عن ميزانية الدفاع.
ففي 10 فبراير 2020، نشرت كاثلين هيكس مقالاً في مجلة فورين أفيرز الأمريكية تحت عنوان “الوصول إلى الأقل.. حقيقة الإنفاق على الدفاع”، تتناول فيه ميزانية الدفاع الأمريكي.
وقد جاء اختيار كاثلين هيكس نائباً لوزير الدفاع الأمريكي، كأول امرأة تشغل هذا المنصب، ليفتح المجال أمام إمكانية تطبيق توجهاتها فيما يتعلق بميزانية الدفاع، ومن هنا تأتي أهمية ترجمة هذا المقال للوقوف على توجهات إدارة بايدن، فيما يتعلق بميزانية الدفاع الأمريكي.
وفيما يلي ترجمة نص المقال:
فيما يتعلق بمسألة الميزانية التي يجب اعتمادها للإنفاق على الدفاع الوطني، كما هو الحال مع الكثير من الأمور الأخرى، فإن الأمريكيين منقسمون. حيث أظهر استطلاع أجرته مؤسسة غالوب في عام 2019 أن 25 % ممن شملهم الاستطلاع يعتقدون أن الولايات المتحدة تنفق القليل جداً على جيشها، ويعتقد 29 % أنها تنفق الكثير، ويعتقد 43 % أن الميزانية التي تعتمدها واشنطن للإنفاق على الدفاع الوطني مناسبة – وهي درجة ملحوظة من عدم الاتساق بالنسبة للسياسيين الذين يحاولون تفسير إرادة الجمهور. وبعد أن بنى الرئيس دونالد ترامب حملته الانتخابية على وعد “بإعادة بناء” الجيش الأمريكي، روّج لـ “مليارات ومليارات الدولارات الإضافية” أضافها إلى ميزانية البنتاغون في كل عام من فترة ولايته. وفي مسار الحملة الانتخابية، كان بعض المرشحين الديمقراطيين يتحركون في الاتجاه المعاكس لذلك تماماً. فمن أجل توفير المال اللازم لخطة الرعاية الصحية الخاصة بها، قالت السناتور إليزابيث وارين من ماساتشوستس إنها تخطط لخفض الإنفاق على الدفاع الوطني. وبالمثل، قال السناتور بيرني ساندرز من ولاية فيرمونت إنه من أجل “الاستثمار في الأسر العاملة في هذا البلد وحماية الفئات الأكثر ضعفاً”، ينبغي على الولايات المتحدة أن تضع حداً “للإنفاق الهائل على الميزانية العسكرية المتضخمة”.
ومع ذلك، نادراً ما يتطرق هذا النقاش إلى السؤال الحقيقي في جوهر الإنفاق على الدفاع الوطني: ما الذي يجب أن يفعله الجيش الأمريكي؟ وما هو الذي يجب أن يكون مستعداً للقيام به؟. فكلما نظر المرء عن كثب إلى تفاصيل الإنفاق العسكري، أصبح من الواضح أنه على الرغم من أن التخفيضات الدفاعية الجذرية تتطلب تحولات خطيرة في الاستراتيجية، إلا أنه يجب تحقيق وفورات في نهاية الأمر. ومع ذلك، فإن الحصول على هذا الوفورات يتطلب اتخاذ خيارات سياسية صعبة، وتبني تفكير إبداعي، والطلب من القوات المسلحة أن تفعل أقل مما فعلت في الماضي. والنتيجة النهائية ستكون الولايات المتحدة أقل عسكرة ولكن أكثر قدرة على المنافسة عالمياً.
ارتفاع وانخفاض
منذ الحرب العالمية الثانية، اتبع الإنفاق الدفاعي الأمريكي نمطاً قديماً من الارتفاع خلال العمليات الرئيسية ثم الانخفاض في أعقابها (وإن لم يكن بنفس الدرجة). ففي بداية الحرب الكورية، في عام 1950، نما الإنفاق العسكري بنسبة ملحوظة، 290 %، في غضون عامين – ليصل إلى 692 مليار دولار بالدولار ثابت القيمة و13 % من الناتج المحلي الإجمالي – قبل أن ينخفض بنسبة 51 % بين عامي 1952 و 1955. وأثناء حرب فيتنام، نما مرة أخرى، ليصل إلى 605 مليار دولار بالدولار ثابت القيمة و 9 % من الناتج المحلي الإجمالي في عام 1968، ثم انخفض بعد ذلك بنسبة 25 % بين ذلك الحين و 1975. ولكن مع تصاعد التوترات في الحرب الباردة في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات، بدأ الرئيسان جيمي كارتر ورونالد ريغان زيادة ميزانية البنتاغون. وبعد سقوط الاتحاد السوفيتي، تقلص مرة أخرى في عهد الرئيسين جورج بوش الأب وبيل كلينتون، حيث انخفض الإنفاق بنسبة 34% بين عامي 1985 و 1997.
ثم جاء الحادي عشر من سبتمبر. فتسببت الحروب التي أعقبت ذلك، في أفغانستان والعراق، في ارتفاع الإنفاق الدفاعي مرة أخرى، حيث وصل إلى ما يقرب من 820 مليار دولار و 4.7 % من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2010. واستمر الإنفاق في الصعود عبر ميزانية إدارة أوباما للسنة المالية 2012، فقط لتصطدم بمواجهة الكونجرس حول الموازنة (أو ما يسمى باحتجاز الميزانية) في عام 2013 والتخفيضات التلقائية الناتجة عن ذلك. وعلى مدى السنوات الثلاث المقبلة، انخفض الإنفاق بشكل طفيف وفقاً للحدود القصوى لميزانية الكونغرس.
لم يدم الانخفاض طويلا. فسرعان ما ضمّت روسيا شبه جزيرة القرم، وظهرت الدولة الإسلامية (داعش) في العراق وسوريا، ووسعت الصين حملتها لاستصلاح الأراضي في بحر الصين الجنوبي. وهكذا بدأ الإنفاق العسكري الأمريكي في الارتفاع مرة أخرى، بدءاً من ميزانية السنة المالية 2016، آخر ميزانية تم سَنُّها في عهد إدارة أوباما. وزادت أكثر في عام 2017، بعد تنصيب دونالد ترامب، الذي كان قد دعا إلى الحاجة إلى بناء الجيش. وخلال سنواته الثلاث الأولى في منصبه، حقق ترامب نمواً سنوياً متواضعاً في الإنفاق الدفاعي، مدعوماً برغبة الجمهوريين الجديدة في رفع سقف الإنفاق وتوافر حساب عمليات الطوارئ الخارجية – وهو بند في الميزانية لا يخضع لسقوف الميزانية التي يفرضها الكونغرس والتي كان قد تم إنشاؤه في الأصل لتمويل الحروب في أفغانستان والعراق، ولكنه يستخدم الآن لمجموعة واسعة من الأغراض. وفي السنة المالية 2020، من المقرر أن تنفق الولايات المتحدة حوالي 738 مليار دولار على الدفاع.
هل هذا قليل جداً أم كثير أم صحيح تماماً؟ إن مجرد النظر إلى الأرقام ليس مفيداً كثيراً. فمن ناحية، يشكل الإنفاق الدفاعي الآن نسبة مئوية أقل من الناتج المحلي الإجمالي والإنفاق التقديري الفيدرالي مقارنة بأي وقت مضى منذ عام 1962. ومن ناحية أخرى، تنفق وزارة الدفاع اليوم، بالدولارات المعدلة حسب نسبة التضخم، تقريباً نفس المبلغ الذي كان عليه في عام 2010، في ذروة الوجود المشترك للقوات الأمريكية في أفغانستان والعراق. ولكن الأكثر فائدة هو النظر في كيفية إنفاق الأموال. وبشكل عام، فهناك ثلاثة أغراض يمكن توجيه الأموال نحوها: جعل الجيش جاهزاً اليوم (الجاهزية)، وإعداده للغد (الاستثمار)، وتصميمه وتحديد حجمه (هيكله).
ولنأخذ في الاعتبار بعض المهام الجديدة التي قام بها الجيش الأمريكي للتعامل مع التهديد الذي تشكله روسيا في أعقاب ضمّها لشبه جزيرة القرم. فلتحسين الجهوزية، رفعت الولايات المتحدة وتيرة التدريبات العسكرية في أوروبا الشرقية ودربت قوات مدرعة جديدة. ومن حيث الاستثمار، فقد زاد البحث والتطوير وشراء أنظمة الصواريخ قصيرة المدى والدفاع الجوي. أما بالنسبة للهيكل، فقد تم نشر المزيد من القوات في بلغاريا وبولندا ورومانيا ودول البلطيق.
يمر التحدي المتمثل في كيفية توزيع الموارد عبر مجموعة واسعة من المصالح الأمريكية، بما في ذلك الردع النووي، ومكافحة الإرهاب، وضمان التدفق الحر للتجارة في المحيط الهادئ. وحالياً، يتم تقسيم الإنفاق بالتساوي تقريباً بين هذه الفئات الثلاث. فالأولويات المحددة بوضوح تجعل من السهل قبول المفاضلات بين المهام والأطر الزمنية المختلفة، ولكن إيجاد التوازن المثالي يكون أمراً صعباً دائماً. والقيام بذلك ينطوي على الأعمال الصعبة التي تتمثل في التنبؤ بالاتجاهات العالمية والمحلية – بما في ذلك رغبات صانعي السياسة في المستقبل.
الطريقة الخاطئة لخفض الإنفاق
صحيح أن اتخاذ الخيارات الاستراتيجية الصحيحة يمكن أن يؤدي إلى قطع شوط طويل نحو تحقيق أقصى استفادة من ميزانية الدفاع، ولكن من الأهمية بمكان أيضاً أن ينفّذ البنتاغون هذه الخيارات بطريقة فعالة. لكن من الناحية العملية، فإن الجهود المبذولة لتحقيق الوفورات من خلال الكفاءة تميل إلى الفشل. ففي كثير من الأحيان، كان لدى صانعي السياسات توقعات ضخمة، ولكنهم حققوا نتائج قصيرة الأجل، وتجنبوا الخيارات الصعبة سياسياً.
كان أحد الأخطاء الشائعة هو الإغراء المتمثل في الوصول إلى الأسهل، وليس الأذكى، في خفض بنود الميزانية التي يمكن القيام بها على وجه السرعة ودون الكثير من الصراع السياسي. وخير مثال على ذلك هو بند البحث والتطوير. فمقارنة بالمشتريات، من السهل نسبياً خفض ميزانية بند البحث والتطوير بسرعة: ففي حين أن وقف إنتاج نظام أسلحة رئيسي يمكن أن يهدد آلاف الوظائف، فإن إغلاق أحد البرامج في مرحلة مبكرة من التطوير يهدد بشكل عام عدداً أقل من ذلك بكثير. ومع ذلك، فإن البحث والتطوير هو شريان الحياة للقدرات المستقبلية، والتخفيضات التي يتم إجراؤها في هذا البند اليوم ستظهر عواقبها بعد عقد من الزمن، عندما يُجبر الجيش على التخلي عن ميزته على الجيوش الأخرى أو القيام بلعبة محاولة اللحاق بالركب باهظة الثمن. فإستراتيجية توفير التكاليف الأخرى تتمثل في تأجيل الإنفاق على الصيانة المجدولة والحفاظ على السفن والطائرات والمعدات الأخرى في الميدان لفترة أطول. ومرة أخرى، سيتم الشعور بآثار ذلك بعد سنوات، ولكن هذه المرة في شكل معدلات حوادث أعلى ووجود عدد أقل من الوحدات الجاهزة للقتال. حيث يفسر ضعف الصيانة جزئياً سبب ارتفاع عدد حوادث الطيران في مشاة البحرية بنسبة 80 بالمائة بين عامي 2013 و 2017 ولماذا في خريف عام 2019 كانت كل واحدة من حاملات الطائرات الست التابعة للبحرية الأمريكية في الساحل الشرقي تَرسو في حوض جاف.
ومن الأخطاء الأخرى النزعة الانعكاسية للتركيز على خفض عدد الموظفين في المقر الرئيسي. كما هو الحال في عالم الشركات، فخفض النفقات العامة يمكن أن يشير إلى الحل، من خلال إظهار أن القيادة على استعداد لتحمل بعض الألم من تخفيضات الميزانية. في الواقع، بذلت وزارة الدفاع، خلال إدارتي كلينتون وأوباما، جهوداً كبيرة لزيادة الكفاءة من خلال تقليص عدد الموظفين الإداريين في جميع أنحاء الوزارة، وخاصة وظائف الموظفين المدنيين الفيدراليين، وسعى وزير الدفاع مارك إسبر إلى فعل الشيء نفسه. لكن الوفورات المحقَّقة من هذه الجهود عادة ما تكون أقل بكثير مما كان متوقعا. وكما هو متوقع، على سبيل المثال، فعلى الرغم من توجيه الكونجرس لوزارة الدفاع بخفض 10 مليارات دولار من خلال الكفاءات الإدارية بين عامي 2015 و 2019، فشل البنتاغون في إثبات أنه حقق هذه المدخرات. والسبب في ندرة نجاح هذه الجهود هو أنها تقوم فقط بنقل العمل الذي يقوم به المدنيون إلى آخرين، مثل الأفراد العسكريين أو مقاولي الدفاع. ومن الحماقة بشكل خاص الاعتماد على تلك المدخرات المتخيَّلة أثناء التخطيط للميزانيات المستقبلية، كما يفعل البنتاغون عادةً.
وخطأ آخر هو استبعاد حدوث مزيد من المهام على الرغم من وجود أدلة قوية على أنها ستظل ذات صلة. ربما كان أفظع مثال على ذلك هو فشل إدارة جورج دبليو بوش في التخطيط لاحتلال العراق. فمنذ بداية تلك الحرب، قاوم وزير الدفاع دونالد رامسفيلد دعوات من الجيش الأمريكي لتجهيز المزيد من القوات لمهمة تحقيق الاستقرار، مما أدى إلى فوضى في البلاد وتكاليف بشرية ومالية واستراتيجية لا توصف. وبعد تأخير دام أربع سنوات، تم إجبار رامسفيلد على التنحي عن منصبه، وعكس البنتاغون والبيت الأبيض في النهاية رؤيته بزيادة عدد القوات الأمريكية عام 2007. أما بالنسبة لاستراتيجية الدفاع أو الميزانية، فقد يكون من المغري الاعتقاد بأن مشاكل اليوم سوف تتلاشى، أو أن مشاكل الغد ستحل نفسها بطريقة سحرية، لكن التاريخ يشير إلى خلاف ذلك.
يرتكب صناع السياسة أيضاً خطأ تجنب خفض ميزانية الدفاع في البنود التي تنطوي على تحديات سياسية. فخفض تكاليف الموظفين هي واحدة من أصعب الأهداف. وللتماشي مع نسب التضخم، نما الإنفاق لكل فرد في الخدمة الفعلية في الجيش بأكثر من 60 % بين عامي 1999 و 2019. ويُعزَى جزء من هذا الارتفاع إلى الزيادات في التعويضات النقدية، لكن معظمها يتعلق بالفوائد. وخلال نفس الفترة، تضاعفت تكاليف الرعاية الصحية العسكرية وحدها. ومع ذلك، فقد اتخذ صانعو السياسة فقط خطوات متواضعة للتحقق من ارتفاع تكاليف الموظفين، وفشلوا في إبطاء نمو رواتب العسكريين أو جعل اشتراكات التأمين متوافقة مع تلك الموجودة في سوق الرعاية الصحية الخاص. ويجب أن تأخذ أي تغييرات في هذه المجالات في الاعتبار الأهداف المتعلقة بتجنيد الأشخاص المؤهلين والاحتفاظ بهم، لكن الوضع الراهن يتيح مجالاً كبيراً للتحسين.
وإغلاق المنشآت العسكرية هو قطار ثالث آخر لخفض الإنفاق الدفاعي. حيث تعترف وزارة الدفاع نفسها بأن لديها قدرة زائدة بنسبة 19 % محلياً، ومن خلال دمج أو إغلاق المنشآت غير الضرورية، يمكن للكونغرس جني وفورات كبيرة. لكن المشرعين رفضوا القيام بذلك، خوفاً من العواقب السياسية لإغلاق هذه القواعد في مناطقهم. لقد مرت 15 عاماً على الجولة الأخيرة من عمليات الإغلاق، وقد مضى وقت طويل على جولة أخرى، والتي يمكن أن توفر عدة مليارات من الدولارات كل عام بعد حساب بعض التكاليف الأولية. وبالمثل، يتردد السياسيون في تقليص برامج المشتريات التي تجاوزت فائدتها. حيث يمكن أن يؤدي القيام بذلك إلى إفساح المجال لاستثمارات جديدة مصمَّمة بشكل أفضل لمواجهة التحديات المستقبلية، ولكنها ستنطوي على تكاليف سياسية كبيرة: الوظائف المفقودة، والمرافق المغلقة، وموردي الدفاع المفلسين. هذه ليست خيارات سهلة، ولكن يمكن تخفيف الألم من خلال برامج الانتقال الوظيفي المشابهة لتلك التي كانت مصحوبة تقليدياً بإغلاق القواعد.
الإستراتيجية والإنفاق
وقد كانت المغالطات الإستراتيجية غير مفيدة بنفس قدر الطرق الخاطئة السابقة في السعي لتحقيق وفورات في ميزانية الدفاع. وفي هذا السياق يتبادر إلى الأذهان تعهد ترامب المتكرر بإعادة القوات الأمريكية إلى أرض الوطن. حيث يُعد الإنفاق العسكري في الخارج هدفاً مغرياً للخفض، حيث إن خفضه يكون أكثر أماناً من الناحية السياسية من خفض الأموال التي تُنفق في الداخل. لكن إبقاء القوات متمركزة على أرض الحلفاء غالباً ما يكون أرخص من نقلهم إلى الولايات المتحدة، حيث لا يتم دعم وجودهم من قبل الحكومات الأجنبية وحيث ستكون هناك حاجة إلى إنفاق جديد كبير لإيوائهم وتدريبهم ونشرهم.
أو انظر كذلك إلى دعوة وارين لـ “إغلاق صندوق طائش للإنفاق الدفاعي” – تصفية حساب العمليات الطارئة الخارجية بالكامل واستخدام الأموال التي يتم توفيرها للأولويات غير الدفاعية. هذا الاقتراح أيضاً مضلل للغاية: فمعظم هذا الحساب يغطي النفقات غير المرتبطة مباشرة بالوجود الأمريكي في أفغانستان والعراق وسوريا. إنه يدفع لجهود متنوعة مثل تمركز القوات البرية والجوية في أوروبا، والعمليات البحرية في الخليج الفارسي والمحيط الهندي، والقدرة على تدافع تحليق الطائرات فوق المدن الأمريكية في حالة الطوارئ.
وبخلاف نزع السلاح على نطاق واسع، فإن النهج الأكثر راديكالية حقاً لخفض الإنفاق الدفاعي هو تبني استراتيجية أمن قومي “أمريكا أولاً”. فيمكن للمرء أن يتخيل طرقاً لجني 100 مليار دولار أو نحو ذلك من التخفيضات الدفاعية، والتي يمكن أن تنمو بمرور الوقت. فيمكن للولايات المتحدة أن تعتمد إلى حد كبير على رادعها النووي لإبقاء المعتدين المحتملين في مأزق. ويمكن أن تتراجع واشنطن عن التزامات المعاهدة الحالية، وتتخلى عن التحالفات الدائمة لصالح الائتلافات المؤقتة. ويمكن للجيش أن يتخلى عن الكثير من قدرته التقليدية على استعراض القوة، وخاصة قواته البرية، ولكنه يحتفظ بما يكفي لمجموعة محدودة من المهام: تأمين وسائل التجارة الأمريكية، والرد على الهجمات المباشرة حسب الحاجة، وإحباط قدرة الإرهابيين قبل قيامهم بأي هجوم. ويمكن أيضاً أن تسرح عشرات الآلاف من العسكريين والعاملين الفيدراليين.
لكن يجدر بنا أن نتذكر إلى أي مدى ستكون هذه الاستراتيجية راديكالية. فالدفاع عن أماكن مثل ألاسكا وغوام وهاواي – البعيدة عن الولايات المتحدة قاريّاً – سيكون صعباً بشكل خاص بالنظر إلى التكاليف العسكرية الذي ستؤدي إليها هذه الاستراتيجية. سيتعين على الأمريكيين والشركات الأمريكية في الخارج أن يقبلوا أن مصالحهم وأمنهم ستتم حمايتها من قبل القوة الدبلوماسية والاقتصادية للولايات المتحدة أكثر من قوتها العسكرية. ومن المؤكد أن انتشار الأسلحة النووية سيزداد، حيث لم يعد الحلفاء السابقون مشمولين بالمظلة النووية للولايات المتحدة، جنباً إلى جنب مع الأعداء الذين يستشعرون انسحاباً أمريكياً، فسيسعون إلى بناء قدراتهم النووية. وربما الأهم من ذلك، إذا غيّرت الولايات المتحدة رأيها وقررت أنها بحاجة إلى تجديد قدراتها العسكرية، فقد لا تتمكن من القيام بذلك بسرعة، ومن المؤكد أنها ستدفع تكاليف زائدة كبيرة إذا حاولت. بالنظر إلى التكاليف الاستراتيجية، فإن استراتيجية “أمريكا أولاً” ليست خياراً عقلانياً – وليست بأي حال من الأحوال صفقة.
طريق مختلف
هناك طريقة افضل. فمن شأن توفر استراتيجية أكثر حكمة، وواحدة أخرى تتماشى مع الرأي العام، أن تبني الثقة في وعود الولايات المتحدة، وتعيد تصور دور الولايات المتحدة كقائدة في حل أصعب التحديات العالمية، حتى بعد قبولها حقيقة أن التفوق الأمريكي لم يعد كما كان. فبموجب مثل هذه الاستراتيجية، سترعى الولايات المتحدة الحلفاء بدلاً من أن ترفضهم، وترسّخ ميزة حيوية على الصين وروسيا، مع أنها محفوفة بالمخاطر بشكل متزايد. وبالعمل بالتنسيق مع الدول ذات التفكير المماثل، ستحمي واشنطن الاقتصاد العالمي حتى تمكّن التجارة الخاصة وتحرير الناس من أجل الازدهار حتى في مواجهة الاستبداد المتزايد. وفي الوقت نفسه، من المتوقع أن يتحمل حلفاء الولايات المتحدة المسؤولية الأساسية عن دفاعهم.
وبموجب ذلك، ففي الخارج، فستقوم الولايات المتحدة ببناء أدواتها غير العسكرية للسياسة الخارجية، وتعيين السفراء وبناء الكوادر الداعمة من الدبلوماسيين الأمريكيين والعاملين في مجال التنمية. وفي الداخل، ستعمل على بناء مصادر قوتها، وتخصيص المزيد من الموارد للتعليم (والتي ستقلل من تكاليف التجنيد والتدريب العسكري من خلال زيادة عدد المرشحين المؤهلين)، والاستثمار في البحث والتطوير (الذي يولد الابتكار الذي يفيد العسكرية)، والسماح بتدفق صحي للمهاجرين ذوي المهارات في العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات (والتي من شأنها أيضاً أن تعزز الابتكار). وستكون المحصلة النهائية هي تخفيف العبء على الجيش الأمريكي – خاصة بالنسبة للمهام الأمنية التي لا ترقى إلى مستوى الحرب، مثل العمليات الإلكترونية ومكافحة الإرهاب – وبالتالي خفض تكاليف الدفاع.
ومع ذلك، لا يزال للقدرات العسكرية دور مهم يمكن أن تلعبه. فالقوات المسلحة تضمن للولايات المتحدة ازدهارها الاقتصادي وتقوّي تحالفاتها. فتصبح الدبلوماسية الأمريكية أقوى عندما تعتمد على البراعة العسكرية، مما يعطي مصداقية لكل من الالتزامات تجاه الحلفاء وتهديدات الأعداء في آن واحد. وللحفاظ على هذا النوع من المصداقية، ستحتاج الولايات المتحدة إلى إبقاء قواتها منتشرة في الخارج، خاصة في آسيا وأوروبا. وسوف تحتاج إلى إعادة تأكيد التزامها بالردع النووي الموسَّع لحلفائها في المعاهدة، والذي له فائدة إضافية تتمثل في تعزيز منع الانتشار من خلال تقليل دافعيتهم للتحول إلى الأسلحة النووية. وسوف تحتاج إلى المساهمة في الجهود المشتركة لدفع التهديدات في الجو والبحر والفضاء وكذلك الفضاء الإلكتروني. وستحتاج أيضاً إلى الاحتفاظ بقدراتها في مجال مكافحة الإرهاب والاستجابة للأزمات في الشرق الأوسط وما حوله، حتى مع خفض مستويات قوتها الإجمالية في المنطقة.
ستتطلب هذه الاستراتيجية إعادة تشكيل ميزانية الدفاع. وكما هو الحال دائماً، فسيحتاج الجيش إلى التعامل مع المقايضات المؤلمة بين الجاهزية والاستثمار والهيكل، نظراً لأن جميع أنواع الإنفاق الثلاثة ضرورية لمواكبة الصين وروسيا. ومع ذلك، فلأن هذه الإستراتيجية تتصور تقليل القوة إلى حد ما، يمكن للبنتاغون أن ينفق أقل على الهيكل، مما سيقلل بدوره الضغط على الفئتين الأخريين (الجاهزية والاستثمار). فمن حيث الاستثمار، يمكن أن يتم تفضيل الأولويات طويلة الأجل على ترقيات الأجهزة الحالية. ويجب أن يظل الإنفاق على الجاهزية مرتفعاً، على الرغم من أن التكاليف الكلية ستنخفض لأن القوة ستكون أقل.
وفي نفس الوقت الذي يعيدوا فيه تشكيل الأولويات العامة للإنفاق الدفاعي، يستطيع صانعو السياسات السعي لتوليد الشجاعة السياسية والتغييرات الثقافية لتحقيق وفورات داخلها. وهنا، يمكن أن تتقارب أهداف السياسة الداخلية والخارجية. فخفض تكاليف الرعاية الصحية الإجمالية، على سبيل المثال، يقلل أيضاً من تكلفة التأمين الصحي العسكري، الذي يأتي في المرتبة الثانية بعد الدفع باعتباره المحرك الأكبر لإنفاق الأفراد المتزايد في الجيش. وتتمتع الاستثمارات في التعليم والبنية التحتية والبرامج التي تساعد العمال على الانتقال بين الوظائف بتوفير ميزة مضافة تساعد على تسهيل قيام السياسيين بالتوقف عن حماية المصانع التي تنتج معدات الأمس والاستثمار بدلاً من ذلك في القدرات المستقبلية. فالتجارة القوية مع الديمقراطيات الموثوقة تقلل من تكاليف إمدادات الجيش. وربما يكون إغلاق المنشآت الدفاعية الزائدة وتوحيدها أصعب عقبة سياسية يمكن القفز إليها، لكن الكونغرس يمكنه أن يخفف الألم المترتب من ذلك عن طريق استخدام برامج المساعدة الانتقالية الحالية لتشجيع إعادة التطوير التجاري في الأماكن التي من المحتمل أن تفقد المنشآت العسكرية.
ولكن لتحقيق إمكانات ووفورات مستدامة حقاً، يتعين على الجيش تبني ثقافة الابتكار والتجريب. وهناك طرق لتشجيع ذلك. فوزير الدفاع، على سبيل المثال، يمكنه إنشاء صناديق خاصة تتنافس من أجلها مختلف الفروع والقيادات العسكرية، مع تسجيل الأفكار الفائزة في الميزانية. ويمكن للبنتاغون أيضاً أن يخصص علاوة على خفة الحركة والبصيرة عندما يمنح الترقيات.
هذه الخيارات معاً – إعادة تشكيل الإستراتيجية الشاملة، والسعي لتحقيق مكاسب كفاءة صعبة سياسياً، وتنمية الابتكار – ستحقق وفورات كبيرة. وبعد إضافة بعض الاستثمار المسبق، يمكن أن تتوقع وزارة الدفاع خفض تكاليفها السنوية بحوالي 20 مليار دولار إلى 30 مليار دولار.
ماذا يريد الأمريكيون؟
لفترة طويلة، كان لدى واشنطن نهج عسكري مفرط في التعامل مع الأمن القومي. إن العالم الذي يتلاشى فيه تفوق الولايات المتحدة يدعو إلى نهج جديد، خاصة وأن المنافسين الاستبداديين يتبعون استراتيجيات جديدة لتسريع انحدار القوة الأمريكية. حان الوقت إذن لاستراتيجية كبرى تُوسِّع نطاق أدوات السياسة الخارجية إلى ما هو أبعد مما يكلفه الإنفاق الدفاعي.
ولكن على الرغم من كل المدخرات التي يمكن وينبغي تحقيقها، جدير بنا أن نتذكر أن الجيش الأقل تكلفة هو جيش صغير، ونادراً ما يتم استخدمه، وتمركزه غير مكلف، وذو أجور زهيدة. وهذا ليس الجيش الذي يريده الأمريكيون أو هم في حاجة إليه. فقد أظهر استطلاع تلو الآخر أن الغالبية العظمى من الأمريكيين يعتقدون أن ازدهارهم وأمنهم مرتبطان بأحداث تقع خارج حدود الولايات المتحدة. إن حماية البلاد من التهديدات الأجنبية وتأمين المصالح الأمريكية في الخارج سوف ينطوي بالضرورة على قوة عسكرية مكلفة.
وتجدر الإشارة أيضاً إلى أن جوهر التحدي المالي في الولايات المتحدة ليس الإنفاق التقديري، مثل ميزانية الدفاع، ولكن عدم القدرة على تعويض النقص بين انخفاض الإيرادات الضريبية والتكاليف المتزايدة لشبكة الأمان الاجتماعي والفوائد المتزايدة على الدين القومي. وبعبارة أخرى، قد لا تكون الولايات المتحدة قادرة على تمويل المستقبل الذي تسعى إليه في المقام الأول من خلال وفورات ميزانية الدفاع. لكنها تستطيع في الوقت نفسه بناء دفاع أفضل وأكثر كفاءة لمستقبلها.