حقيقة “جريمة العصر” تضيع في “متاهات” السياسة ودهاليزها؟!
قد يكون قرار محكمة التمييز “كفّ يد” المحقّق العدلي في “جريمة العصر”، ذلك الانفجار المشؤوم الذي روّع اللبنانيين في الرابع من آب الماضي، ولا يزال يحضر في “كوابيسهم”، قانونيًّا من حيث الشكل، وفي المبدأ، طالما أنّه انطلق من مبدأ “فصل السلطات”، واستند إلى “دعوى ارتيابٍ مشروع” يجيزها القانون.
وقد يجد هذا القرار من “يدافع” عنه، بمُعزَل عن الأسباب الحقيقيّة التي دفعت إليه، وهي بمجملها “سياسيّة”، وذلك انطلاقًا من “الملاحظات والتحفّظات” التي يحيط بها البعض عمل المحقّق العدلي منذ اليوم الأول، والذي يُتَّهَم من شرائح واسعة بأنّه من “سيّس” الملفّ، حين “حصر” الاتهام بجهاتٍ سياسيّة دون غيرها، مع أنّ القاصي والداني يعلم أنّ ما ينطبق عليها، يسري بالضرورة وحكم الأمر الواقع على غيرها.
وإذا كان كثيرون سجّلوا، في المقابل، للمحقّق العدليّ “جرأته” على توجيه الاتهام لسياسيّين للمرّة الأولى، ولو بالحدّ الأدنى المُتاح، رغم “التفاوت النسبيّ” في تقدير هذه “الجرأة”، فإنّ قرار “كفّ يده” بهذا الشكل، أثار أيضًا التباساتٍ بالجملة، ليس فقط حول “استقلاليّة” القضاء، ولكن قبل ذلك حول “فاعليّته”، فضلًا عن كونه أحيا هواجس ومخاوف كثيرين من “تمييع” التحقيق، في وقتٍ تكاد الثقة به “تنعدم” ليس من أهالي الضحايا فحسب، ولكن من مجمل اللبنانيّين.
على كفّ عفريت!
مع أحقية بعض الملاحظات التي يرسمها البعض حول أداء القاضي صوّان، بدءًا من “التسييس” إلى “التوقيفات” التي شملت أشخاصًا يقال إنّ صلاحيات أمنية لهم أصلاً في المرفأ، يرى كثيرون في خطوة “كفّ يده” مؤشّرًا سلبيًّا، على عدّة مستويات، أولها أنّها تضع “مصير” التحقيق برمّته في كفّ عفريت، في وقتٍ ينبغي على السلطات الإسراع بالتحقيقات لكشف الحقيقة، وهو ما يطالب به المجتمع الدولي، شاكيًا “المماطلة” التي رافقت التحقيق في مختلف مراحله.
واستنادًا إلى ذلك، يرى البعض أنّ مسار التحقيق قد يبدو الآن أكثر تشابكًا وأكثر تعقيدًا، خصوصًا أنّ التوافق على اسم القاضي صوّان أصلاً بين وزيرة العدل في حكومة تصريف الأعمال ماري كلود نجم ومجلس القضاء الأعلى تطلّب، كما يذكر المتابعون، اجتماعات ماراثونية، والكثير من الشدّ والجذب، والأخذ والردّ، وتخلّلها اعتذار قضاة وإحراج آخرين، وهو مشهدٌ قد يكون اللبنانيون على موعد مع جولةٍ جديدةٍ منه، لا أحد يعرف كيف تنتهي، ولا كم يمكن أن تدوم.
ولعلّ المشكلة الكبرى التي سيقع فيها القاضي الجديد الذي سيتمّ تعيينه، إذا ما تحقّقت هذه “المعجزة” سريعًا، تكمن في كيفية مضيّه بالتحقيقات، فهل يبدأ من “النقطة الصفر” على الطريقة اللبنانية، ويبدّد بالتالي مجهود الأشهر الفائتة بكبسة زرّ، فيما أهالي الشهداء ينتظرون بحرقة من يثأر لأبنائهم، أم يكمل من حيث انتهى صوّان، علمًا أنّ “العين الدولية” مصوَّبة على التحقيقات، في ظلّ الدعوات التي تصدر عن أكثر من عاصمة غربية لوجوب الإسراع بالتحقيقات وعدم المماطلة بها أكثر.
“خط أحمر”
وبانتظار وضوح الصورة، ونضوج كلّ المُعطيات المحيطة بها، ثمّة من يسأل عن “العِبْرة” من تجربة القاضي صوّان، التي سيكون على أيّ محقّق عدلي جديد أن يسير بمقتضاها، والتي قد لا تكون في صالح أيّ تحقيقٍ مستقلّ، رغم مبدأ استقلالية السلطة القضائية الذي يبدو مقدَّسًا في الأقوال فقط.
في هذا السياق، يشير خبراء قانونيّون إلى أنّ “تنحية” صوّان لم تحصل بسبب أداءٍ عامّ “مرتبك” مثلاً، ولكن بكلّ بساطة، لأنّه “تجرّأ” على الادّعاء على سياسيّين، بمُعزَلٍ عن مدى صوابيّة ما ذهب إليه، في ظلّ وجود العديد من “التحفّظات”، وهذا يعني فرض “خطوط حمراء” على أيّ محقّق عدلي يأتي من بعده، إذ سيشعر لا إراديًا بأنّ عليه “تجنّب” الصدام مع السياسيّين “المحظيّين”، وإلا “يلحق” بمن سبقه.
ولعلّ “المحكّ” الأساسيّ الذي ينتظر القاضي الجديد ينطلق من هنا بالتحديد، وإن كان البعض يلفت إلى وجود “أصول قانونية” يمكنه اتّباعها لملاحقة من يريد، ولو تفاوتت الاجتهادات والفتاوى الدستورية في هذا الإطار، علمًا أنّ هناك من يخشى أن يكرّس “التخبّط” المرصود على خطّ التحقيقات، مبدأ “انعدام الثقة” بالقضاء، والذي يكرّره اللبنانيون مؤخّرًا، وفق قاعدة أنّه لم يصل عمليًا إلى كشف الحقيقة في أيّ من الجرائم التي ضربت لبنان في العقدين الأخيرين.
ولعلّ هذا بالتحديد هو “بيت القصيد” برأي كثيرين، فما حصل على خطّ قضية انفجار المرفأ، لا يُشعِر أهالي الضحايا فحسب بعدم وجود من يكترث لحالهم، لكن من شأنه أن يؤدي إلى “اغتراب” المواطنين وعدم إحساسهم بأنّ القضاء قادرٌ على أن “يحصّل” لهم حقوقهم، فضلاً عن كونه يطرح علامات استفهام عمّن يضمن عدم ضرب القضاء أكثر في الانتخابات، ما يمكن أن يعيد البلاد إلى حقبات ظلاميّة ظنّ اللبنانيون أنّها ولّت.
بمُعزَلٍ عما إذا كان “كفّ يد” القاضي صوّان سليمًا من الناحية القانونيّة، أم يعكس تدخّلاً سياسيًّا في مكانٍ ما، يبقى الأكيد أنّ أكثر من نصف عام مرّ على انفجار مرفأ بيروت، من دون أن تسفر التحقيقات حتى اليوم عن أيّ نتائج تُذكَر، في مسار قد يكون “مألوفًا” في لبنان، لكنّه لا يمكن أن “يمرّ” في جريمةٍ لا سابق لها لم تقتصر ارتداداتها على عائلات الضحايا، بل هزّت لبنان بأسره، ومعه البشريّة أينما كان!
المصدر: لبنان 24