فؤاد البطاينة-رأي اليوم
خسر العرب حرب ال 48 و67. ولكنهم هُزموا بقبولهم لقرار مجلس الأمن 242. فقد كان هذا القرار أول محطة مُبكرة يُنتزع فيها الإستسلام العربي للمشروع الصهيوني، وجرَّ العربَ فيما بعد الى كل طريق لا تؤدي إلا لفلسطين دولة يهودية، دافناً خلفه كل قرارات الأمم المتحدة التي يُمكن أن نسميها عقبة أمام المشروع الصهيوني كقرار التقسيم وحق العودة.
وابتداءً علينا معرفة موقع هذا القرار في أجندة مجلس الأمن. فهذا المجلس طور لنفسه بالممارسة ثلاثة أنواع من القرارات. قرارات يتخذها ويعني تنفيذها وغالباً ما يُصدرها بآلية الفصل السابع. وقرارات يُصدرها رياء للتخلص من حرج الميثاق أو القانون الدولي أو لامتصاص أزمة، ويندرج تحت هذا النوع جميع قراراته بشأن القدس والقضية الفلسطينية. أما النوع الثالث فهي القرارات التوفيقية ومنها القرار 242. وتصاغ بطريقة ملتبسة يصعب تنفيذها. يعتقدها كل من طرفي النزاع لصالحه كأفضل المتاح، ويلجأ إليها المجلس حين تكون المسألة على خلفية خطيرة أو احتلالية ويكون فيها أحد طرفي النزاع متمتعاً بوجود حليف أو حلفاء استراتيجيين له من الأعضاء الدائمين ويفتقد الطرف الأخر لمثله.
القرار يقع في فقرتين عاملتين رئيستين واثنتين شكليتين ويخلو من كلمة يُقرر بل وضِع له عنوان على انه مبادئ للسلام. تصدرته ديباجة تقوم على مبدأ سائد بالميثاق والقانون الدولي، هو مبدا عدم جواز حيازة الاراضي بالحرب، ليكون الطُعم الواهم يلتئم عليه الطرف العربي المهزوم بلا أسنان. حيث كان المطلب العربي لا يتعدى ما سمي بازالة أثار العدوان على مصر وسوريه والاردن بمعنى إزالة احتلالات حرب 67. ومن الطبيعي أن يكون هاجس اسرائيل حينها أن تُعظم مكاسبها وتأخذ ثمن انتصارها لا أن تُسلم الأراضي بالمجان. وأقلها الحصول على اعتراف عربي بها كدولة بما قامت عليه من احتلال للجزء الأكبر من فلسطين. بينما منظمة التحرير اعترفت بالقرار عام 1988 (كدولة )، بدون التحفظات التي كانت تشكل مآخذ لها على القرار طوال عقدين من بروزها. لكن اسرائيل لم تعتبرها طرفاً بالقرار، بل منذ بداية احتلالها ضمت القدس عملياً وسمت المناطق بيهوذا والسامرة واعتبرتها محررة ولم يكن بنيتها التخلي عنها. ولم تلتزم المنظمة بحمل مشروع استراتيجي واصبحت جزءاً من سياسة النظام العربي وبلا رؤية جادة تُفضي لحل تاريخي
عندما نص القرار على الإنسحاب، فإنما شكلياً كاستحقاق لمبدأ عدم جواز الإستيلاء على الأرضي بالحرب، وليس لتنفيذه. فهو لم يطلب الإنسحاب أو يُقرره، بل جعله مرتبطاُ بحزمة شروط تُفسده وتنال من القضية الفلسطينية وتعطي إسرائيل ما لم تكن تحلم به من دون ما يضمن الإنسحاب بعد ذلك. واللافت للإنتباه هنا أن كل ما جاء بالقرار تم ربطه ابتداءا بالمادة الثانية من الميثاق دون لزوم لها. وكان المقصود منها هو الفقرة السابعة التي تنص أو تُفيد بأنه ,,ليس للأمم المتحدة ولا ميثاقها ما يُسوغ التدخل في الشؤون التي تكون من صميم السلطان الداخلي للدول وبأنه ليس للدول أن تُخضع مثل هذه المسائل لحلول الميثاق،،. وهذا ليُعطي إسرائيل باباً للتنصل من التزاماتها بهذه الذريعة، ويُعطي مجلس الأمن ذريعة عدم التدخل وترك الأمر لإسرائيل لتأخذ ولا تعطي إن شاءت. فالدولة عادة هي التي تقرر إذا كان هذا الشأن أو ذاك يدخل ضمن سلطانها الداخلي أم لا.
الفقرة العاملة الأولى هي قوام القرار وتتألف من فرعين (أ) وفيها حصة العرب منه. و( ب ) فيها، وفي باقي الفقرات حصة إسرائيل من القرار. حصة العرب (دحه ) جاءت بصيغة وعد لطفل، مشروط بتحقيق مطالب الأب المضمنة في الفرع (ب ). ونص الوعد في الفرع ( أ ) هو ,,سحب القوات الإسرائيلية من أراض احتلتها في النزاع الأخير.. أما شروط الأب الخادع للإنسحاب “اسرائيل ” في الفرع( ب)، ففيه أول إختراق دولي لموقف العرب التقليدي من القضية الفلسطينية والوجود الصهيوني في فلسطين والمنطقة، ولكل مفاهيمنا لطبيعة صراعنا مع الغزو الصهيوني ومشروعه المشترك مع الغرب، وفيه سحقاً للمفهوم التاريخي في تسوية قضايا الشعوب الاحتلالية وحقوقها. ونص الفرع هو (إنهاء الإدعاءات وحالات الحرب والإعتراف بسيادة ووحدة أراضي كل دولة في المنطقة وباستقلالها السياسي والعيش بسلام ضمن حدود أمنه ومعترف بها وخالية من التهديد ). وشروط أخرى في الفقرة الثانية. ولا شك أن قبول العرب للقرار يعني قبولهم لكل ما ينطوي عليه هذا النص لدولة احتلال
هذا الفرع (ب ) يمنح “إسرائيل” ما لا تستحق على حساب التاريخ والمبادئ وكل قانون وقرار وناموس وعلى حساب العرب وبالذات الفلسطينيين، ككيان أكثر ما يعرفه ويعرف أصوله وقصة وجوده أعضاء مجلس الأمن. وفي المقام الأول نستحضر بأن المقصود بخطاب هذا الفرع وبكل القرار هم “إسرائيل” ودول الجوار العربي بدون الفلسطيني صاحب الأرض والنزاع المباشر وبمعزل عن القضية الفلسطينية لب الصراع , وكان على الدولتين مصر والأردن أن تتذكرا هذه العوار الباطل، والحقائق وانعكاسات القرار على الشعب الفلسطيني صاحب الأرض ورقم الصراع في الشرق الأوسط، وأن لا يُسمح باختزال القضية الفلسطينية كقضية احتلال وطن وحقوق غير قابلة للتصرف لشعب أصلي بعبارة،،تسوية مشكلة اللاجئين،، التي وردت في الفقرة الثانية. فهذا بيع باطل لفلسطين وللحقوق.
واسترسالاً، إن عبارة (إنهاء الإدعاءت ) التي لم يوضح القرار ماهيتها لا يعني سوى إسقاط أي ادعاء تاريخي أو قانوني بوجود احتلال قام عليه الكيان، والإعتراف به. أي إسقاط عروبة فلسطين وحقوق الفلسطينيين وقبول الأمر الواقع. ثم جاءت عبارة،،انهاء حالة الحرب،، وقبول هذه العبار مع بقاء القضية الفلسطينية بمكوناتها السياسية والإنسانية عالقة ودون ذكر، يعنى تحييد العرب عن الصراع الصهيوني – الفلسطيني وترك الفلسطينيين وحدهم. ثم جاء النص صريحا بالإعتراف العربي (بإسرائيل ” حيث وإن كان منطوق النص،، الإعتراف بسيادة ووحدة أرضي كل دولة في المنطقة واستقلالها السياسي والعيش بسلام ضمن حدود أمنه،، ينطبق على الطرفين إلا أنه لم تكن هناك مشكله باعتراف اسرائيل بالدول العربية بل المشكلة باعتراف العرب بها وباحتلالها.
عبارة ( ضمن حدود آمنه) التي وردت بنص هذا الفرع يوصلنا لإنهاء اللغط حول مسألة (من أراض، أم الأراضي) وحسمه. إنها بالتأكيد (من أراض) بعلم وموافقة جميع الأطراف بدلالتين دامغتين. الأولى، أن عبارة ضمن حدود أمنه هذه، ما كانت لتكون في الفقرة إلا لأنها تنطوي على تغيير في الحدود وتعقيد التفاوض. وكان من الطبيعي تبعاً لذلك أن يكون النص هو الإنسحاب (من أراض). والدلالة الثانية أن النص الإنجليزي الذي يعتمد كلمة ( أراضي ) هو النص الأصلي الذي صاغ به اللورد كارادون ( مندوب بريطانيا) بالتعاون مع أمريكا مشروع القرار والذي كانت الاطراف كلها تعتمده في النقاش والتفاوض. وهي المعتمدة كمرجع تصاغ منه الترجمات بلغات العمل الأخرى ومنها العربية والفرنسية. فغياب أل التعريف لم تكن سقطة ولا فيها لعبة بل مقصودة بعلم المتفاوضين والمناقشين لمسودة المشروع. ولا نستطيع القول بأن العرب كانوا (يتبعون) على النسخة العربية، فالأصح أنها أنطمة مهزومة وكانت تقبل بكل ما يمنحها فرصة إعلانها لانتصار سريع واهم ً أمام شعوبها الغاضبة.
نعود للسياق، وبالملخص، كانت إسرائيل قبل عام 1967 تفكر بحماية نفسها وتثبيت دولتها. وبعد تقبل العرب للقرار 242 ونتيجة له ولأرضيته بدأت تعمل لانطلاقة المشروع الصهيوني. القرار لم يُصمَّم لانسحابها بل لتفاوض ماراثوني تُبتز فيه الأنظمة العربية التي كانت مُستضعفة عسكرياً وسياسياً ومغضوب عليها شعبياً. ومن كان منها لا يفتقد الشرافة والحس الوطني، كان يفتقد للفهم السياسي. وعملية التفاوض على القرار لم تكن تسندها مضامين صريحة وضمانات ومشاركة من دول المجلس وكان الإبتزاز سيد الموقف، وتمخضت بالتالي عن معاهدات سلام استسلامية مع الكيان المحتل وكل أسسها في القرار 242. وأسست هذه المعاهدات بدورها لعمليات التطبيع العربي والدولي معه. وتحول مبدأ الأرض مقابل السلام إلى استسلام بدون أرض. وكل من يتوهم بأن العرب أخذوا سيناء فرغم أنه مشروط، فإنه مقابل تحول مصر من دولة عظمى عبر التاريخ الى دولة ضعيفة ومهددة لا تستطيع حماية النيل شريان حياتها من دولة ضعيفة تتنمر عليها، فكيف بحماية نفسها ومصالحها من “إسرائيل”، أعتقد بأننا بحاجة لرحمة الله بانتظار جيل أخر نحو الحل التاريخي.
كاتب وباحث عربي