أكرم البني
والبداية من اعتقالات طالت عدداً من الناشطين الموالين بشدة للنظام، وغالبيتهم من مدينتي طرطوس واللاذقية، والسبب استخدامهم وسائل التواصل الاجتماعي، لانتقاد تدهور الأوضاع المعيشية والاقتصادية، وتفشي ظواهر الفساد والابتزاز، أما التهمة فهي التعامل مع صفحات مشبوهة تضعف الشعور القومي وتنال من مكانة الدولة، وقد جرت الاعتقالات التي يرجح أنها لا تزال سارية وتطال آخرين، بعد يوم واحد فقط من إنذار لوزارة الداخلية يقضي بتفعيل أحد أسوأ قوانين الوصاية السلطوية ومحاربة الرأي الآخر ويهدد «بالعقاب والاعتقال المؤقت، كل من يساهم في إضعاف الشعور القومي ونقل أنباء يعرف أنها كاذبة، أو مبالغ فيها، من شأنها أن توهن نفسية الأمة»!
تلا ذلك قرار صادر عن رئيس فرع البدل والإعفاء في الجيش السوري، يقضي بالحجز التنفيذي ومصادرة ممتلكات وأموال كل مواطن داخل البلاد أو خارجها، لم يؤد الخدمة العسكرية أو يدفع بدل فواتها، والأنكى أن الحجز يتم بموجب حكم تصدره مديرية التجنيد وليس القضاء، ويشمل ممتلكات أهله وذويه أو أي أحد يخصه! وإذ يقدر عدد الفارين من الخدمة الإجبارية العسكرية بعشرات الآلاف، وإذ يتزامن القرار مع حملات واسعة تقوم بها أجهزة أمن النظام وشرطته العسكرية لملاحقة الشبان واعتقالهم وسوقهم إلى الخدمة الإلزامية أو الاحتياطية، يمكن أن نفهم مدى حاجة السلطة لتعويض ما فقدته من عناصر جيشها كي تتابع حملاتها العسكرية، وكيف تحاول رفد خزينتها بالأموال والعملات الأجنبية، حين تشدد الضغط على أرزاق المتخلفين وذويهم لإجبارهم على تسديد بدل الخدمة، ويصل إلى ثمانية آلاف دولار، بالتزامن مع شن حملات قمع واعتقال وترهيب في أسواق العاصمة والمدن السورية لمنع التداول بالعملة الصعبة.
ومنذ أيام، نجح النظام، وبوساطة روسية، وتحت وطأة القصف المتواتر والتهديد بالاجتياح الشامل، في تعديل شروط التسوية مع اللجان المحلية المعارضة في مدينة طفس الحدودية ومناطق غرب مدينة درعا، وتمكن بعد سنوات من دخولها وتفعيل مؤسسات الدولة فيها، لكنه أكره على التراجع، مرة جديدة، عن اندفاعاته العدوانية في مدينة السويداء، التي يرفض شبابها الالتحاق بالخدمة العسكرية، وآثر سياسة الاسترضاء والاحتواء، بعد مظاهرات غاضبة لأبنائها وصلت لتمزيق صور الرئيس السوري، تعبيراً عن رفضهم لاعتقال شاب على حاجز أمني وإساءة رئيس أحد فروع الأمن لشيخ عقل الطائفة حين طالب بإطلاق سراحه!
وإلى الآن، لا يزال التوتر سيد الموقف في شمال شرقي البلاد، بين قوات سوريا الديمقراطية وقوات النظام، بعد حملة تحريض أطلقتها الأجهزة الأمنية لتشجيع الأهالي والموالين لها في مدينتي القامشلي والحسكة على الخروج في مظاهرات ضد سلطة الإدارة الذاتية الكردية، ربطاً بتشديد الضغط على قرى وأحياء محسوبة على قوات سوريا الديمقراطية في ريف حلب، كالشهباء والأشرفية والشيخ مقصود، فمنعت عنها الطحين والمحروقات والدواء، كما فرضت إتاوات مالية كبيرة على سيارات الفواكه والخضراوات، وقد ردت قوى الأمن الكردية بقمع عنيف للمظاهرات التي خرجت، وتشديد الحصار على قوات النظام وأعوانه في مدينة الحسكة ضمن بقعة صغيرة تسمى «المربع الأمني»، كما تضييق الخناق على الأحياء الموالية للنظام في مدينة القامشلي، بحيث منعت الدخول إليها والخروج منها وكذلك البضائع والمواد الاستهلاكية، مما ينذر، في أي وقت، بانفجار الأوضاع هناك، وذلك رغم الدور النشيط التي تلعبه روسيا للتوفيق بين الطرفين ورعاية اجتماعات بينهما لتخفيف حدة الخلافات، لكن وساطتها لا تزال تراوح في المكان، في ظل إصرار النظام على إعادة القوات الكردية إلى بيت الطاعة، وتعويل الأخيرة على استمرار الدعم الأميركي لها لفرض شروطها، خاصة وقد تراجعت ثقتها بالنظام الذي تعتقد أنه طعنها في ظهرها غير مرة، عبر تغاضيه، منذ اجتياح عفرين، عن دور تركيا في محاربتها ومحاصرتها.
وبالنتيجة، ثمة أحداث متضافرة تتواتر في سوريا منذ أسابيع، وتتخذ أشكالاً متنوعة، لكن يمكن إدراجها جميعها تحت عنوان واحد هو اندفاع النظام القائم، وبتسارع لافت، نحو سياسة تصعيدية في محاولة لتوسيع قبضته القمعية وتشديدها على البلاد.
لا يخطئ من يذهب إلى ربط تلك الأحداث بقرب موعد الانتخابات الرئاسية المزمع إجراؤها في أبريل (نيسان) المقبل، بغرض توسيع قاعدة المشاركين فيها وترهيب أو تطويع الرافضين لها، وتمريرها بأقل منغصات وردود فعل، وفي الطريق تعويم رأس النظام ورفع المسؤولية عنه فيما يجري، ومنحه دوراً حاسماً في تهدئة التوترات (اعتذاره لمدينة السويداء) أو في مراضاة المتضررين بزيادة صورية للأجور والرواتب، وإطلاق سراح بعض المعتقلين وتخفيف ملاحقة الفارين.
كما لا يخطئ من يقرنها بنتائج الانتخابات الأميركية ويعتبرها عملاً سلطوياً مبرمجاً لتمكين السيطرة قبل استجلاء جديد سياسة واشنطن تجاه سوريا، وبخاصة محاولات النظام الحثيثة لخلق البلبلة في مناطق حكم الإدارة الكردية المدعومة أميركياً، بأمل إنهاء دوافع الاعتماد الغربي عليها، والظهور بمظهر الممسك بكل الأمور لتسويق نفسه كبديل وبأنه لا خيار سوى التعاطي المباشر معه، ربطاً بإرسال إشارات تودد للقيادة الأميركية الجديدة، لتغذية تلميحات عند بعض رموز الأخيرة بضرورة التعاطي مع الدولة السورية في مواجهة الإرهاب الإسلاموي.
لكن الصائب هو تفسير ما يجري على أنه أمر مألوف في سوريا، واستمرار طبيعي لنهج سلطوي معجون بمنطق القوة والغلبة، ويفتنه الهروب من معالجة الأسباب الحقيقة للأزمات المتفاقمة، نحو توظيف مختلف أدوات القهر والفتك والتنكيل، وحتى آخر الشوط، للحفاظ على سلطته وامتيازاته، ممعناً مع حلفائه، في رفض مختلف الحلول والمبادرات الأممية وعرقلتها، بدليل ما حل باللجنة الدستورية، وفشل مجلس الأمن مؤخراً في اتخاذ قرار يحرك العجلة السياسية في سوريا.
والحال، لن ينجح النظام في تسويق نفسه وتفادي تداعيات أزمة اقتصادية خانقة، مع حليفين يعانيان مثله، ولا يمكنهما أن يقدما له سوى المسكنات، كما لن ينجح في وقف العقوبات وفتح باب إعادة الإعمار، أمام تضافر مصالح عالمية وإقليمية تتمسك بأولوية الحل السياسي، لكنه، بلا شك، سوف ينجح في التوغل أكثر فأكثر، في تعنته وارتكاباته للحفاظ على كرسي الحكم، ولإجهاض أي معالجة سياسية لما تعانيه البلاد، حتى لو كان الثمن مزيداً من العزلة والحصار، ومزيداً من العنف والتفكك والجوع والخراب.
المصدر: الشرق الاوسط