فيما الجميع منشغل في مواجهة وباء «كورونا»، يفتك «وباء صامت» باللبنانيين بدءاً من أطفالهم. 18% من أطفالنا يحملون بكتيريا مقاومة للمضادات الحيوية، وهذه ثاني أعلى نسبة في العالم. وتشير التقديرات، بناء على دراسة حديثة، إلى أن نسبة تفشي هذه البكتيريا في لبنان قد تلامس الـ 30%. يعني ذلك أننا أمام العودة الى ما قبل ظهور المضادات الحيوية، بحيث يتحول كل عمل جراحي أو طبي الى… لعبة مع الموت
ففي دراسة جديدة أعدّها فريق بحثي برئاسة قاسم في مختبر ميكروبيولوجيا الغذاء في الجامعة الأميركية في بيروت، بالتعاون مع جامعة جورجيا الأميركية، وشملت 72 طفلاً من دور حضانات في خمس مدن (بيروت، صيدا، طرابلس، الشويفات وجونية)، تبيّن بعد إخضاع حفاضاتهم لفحص بكتيريا e.coli، أن 13 منهم يحملون جينات mcr.
وهذا الجين مقاوم لكل المضادات الحيوية بما فيها الـ«كوليستين»، أحد أكثر المُضادات فعالية والذي يتم اللجوء إليه عادة بعد فشل بقية المُضادات، ويُعرف بـ«الملاذ الأخير» في الحالات المستعصية. وتشير التقديرات إلى أنه، بين عامي 2010 و2017، تضاعفت نسبة استخدام هذا العقار في لبنان خمس مرات نظراً إلى أهميته، بوصفه إحدى أهم وسائل معالجة الالتهابات. وهنا مكمن الخطورة، ذلك أن خسارة هذا الدواء ــــ كما غيره من المُضادات الحيوية ــــ لفعاليته يعني العودة الى عصر ما قبل ظهور المضادات، وأن الأمراض التي كان يمكن علاجها بالمضادات ستعود مرة أخرى أمراضاً مميتة مرة أخرى. بمعنى أن كثيراً من الإجراءات الطبية، مثل العمليات القيصرية وزرع الأعضاء والعلاج الكيميائي، قد تصبح محفوفة بالمخاطر. وتصف منظمة الصحة العالمية مقاومة المُضادات الحيوية بـ«الوباء الصامت»، واعتبرتها في دراسة نشرت عام 2016، واحداً من «أكبر الأخطار التي تهدد الصحة العالمية»، و«قد تتسبّب بوفاة نحو 10 ملايين شخص سنوياً بحلول سنة 2050».
الدراسة، وفق مُعدّيها، استندت إلى تقنيات علمية حديثة أتاحت تحديد مصدر البكتيريا في البيئة والطعام. ولفت قاسم إلى أن العيّنات أُخذت من حضانات مرخصة من وزارة الصحة وتتمتع بمعايير التزام وكفاءة أعلى من غيرها، «وحيث يُفترض أن نوعية الأطعمة وآلية حماية الأطفال هي الأفضل». لذلك، يخلص إلى أن هذه الأرقام تعطي مؤشراً على ارتفاع كبير في نسبة تفشي جينات المناعة لدى بقية الأطفال في بقية الدور، وخصوصاً التي لا تلتزم بالشروط الصحية، وبالتالي في بقية المجتمع. «وعندما تظهر هذه الأرقام بين الأطفال، الذين غالباً ما يتم الاعتناء بطبيعة غذائهم وصحتهم أكثر من بقية الفئات العمرية، يعني أننا في وضع خطير جداً».
وكان الفريق البحثي نفسه قد أثبت في دراستين سابقتين اكتساب الجراثيم في البحر اللبناني مناعة ضد معظم أدوية الالتهابات، ومن ضمنها عقار «كوليستين» بسبب انتشار جينات المناعة المتنقلة، فضلاً عن أن استخدام مزارع الدجاج في لبنان, هذا العقار بشكل مفرط لزيادة إنتاج الطيور وتسريع تسمينها، أدّى الى انتشار جين mcr المقاوم للمضادات الحيوية، بما فيها الـ«كوليستين» نفسه. ويُستخدم هذا العقار في مزارع الدواجن بكميات كبيرة وبطرقٍ غير خاضعة للرقابة، عن طريق إذابته في مياه الشرب، في بلد يضمّ أكثر من 600 مزرعة دجاج، ويستهلك بين 50 و60 مليون فروج من الإنتاج المحلي سنوياً. وقد بيّنت هذه الدراسة أن 90% من العيّنات البكتيرية التي أخذت من مزارع دواجن متعددة في الشمال والجنوب اللبناني تحتوي على جين mcr المقاوِم لـ«كوليستين».
لذلك، جزم قاسم بضرورة وقف استخدام هذا العقار في قطاع الزراعة الحيوانية، أسوة ببقية البلدان، وخصوصاً في قطاع الدواجن و«فرض قيود على استيراده واستخدامه لما له من تأثير بالغ الضرر على صحة الإنسان».
مدير الثروة الحيوانية في وزارة الزراعة الدكتور إلياس إبراهيم، من جهته، قال لـ«الأخبار» إن الوزارة «تتبع المعايير العالمية، وحتى الآن، لم يصدر عن الدول المرجعية أي توصيات بشأن وقف استعمال كوليستين في مزارع الدجاج لعلاج الجهاز الهضمي لدى الطيور»، لافتاً إلى أن عيّنات جمعتها الوزارة من مزارع الدجاج «بيّنت أن استخدام هذا العقار طفيف ومحدود جداً».
غير أن مصادر طبية متخصصة شكّكت في ذلك، مشيرة الى أن هذه «العيّنات أُخذت بشكل خاطئ، إذ جرى سحب عينات من عضل الدجاج، الأمر الذي يستحيل معه أن يظهر وجود الكوليستين». وأوضحت أن الموضوع «لا يرتبط بحجم تركزّ العقار في الدجاج، بل بتأثير استخدامه وقدرته على إكساب البكتيريا الموجودة المناعة ضده». ونبّهت المصادر إلى تأثير نقابة مربي الدواجن على وزارة الزراعة، «إذ تمارس النقابة دائماً ضغطاً لعدم حظر هذا العقار ومنع استيراده واستعماله».
التركيز على وقف استخدام الـ«كوليستين» في مزارع الدجاج يعود إلى أن غالبية العينات في الدراسة السابقة أظهرت أن مصدر البكتيريا هو مزارع الدجاج. أما تركيز الدراسة الجديدة على انتشار جين mcr المتنقل في بكتيرياe coli، فلا ينفي إمكانية انتقاله إلى بكتيريا أكثر خطورة. وهنا مكمن القلق الرئيسي، إذ إن التخوّف مرتبط بانتقال الجينات المناعية إلى أنواع أشدّ من البكتيريا بما يجعلها عصيّة على العلاج.