لا حكومة: إيران تريد “ثمن” المبادرة الفرنسية

 

إيلي القصيفي -أساس ميديا

أكثر فأكثر، يبدو الواقع السياسيّ اللبنانيّ محكومًا بتناقض رئيسيّ، يتمثّل بأنّه لم يعد في الإمكان توقّع حلّ للمعضلة الحكومية، من دون تدخّل خارجي أيّا تكن طبيعته وحدوده. وفي الوقت نفسه، فإنّ أيّ تدويلٍ للأزمة اللبنانية محكومٌ بأمرين: أوّلهما تقدّم الملف اللبناني في قائمة الملفّات الإقليمية والدولية، وهو ما لم تظهر مؤشرات جدّية عليه بعد، وثانيهما قدرة الدول المؤثّرة والمهتمّة بحلّ الأزمة اللبنانية وفي مقدّمتها فرنسا، على التأثير والضغط على الفريق الحاكم المعطّل لتشكيل الحكومة لحثّه على الإفراج عنها.

لذلك فإنّ الصراع الداخلي حول الحكومة، هو صدًى للكباش الإقليمي والدولي الحاصل حول الملفّ النووي الإيراني. وبالتالي، فإنّ الرهان الأساسيّ للمبادرة الفرنسية في نسختها الأولى، كان على إمكان تحييد الملف اللبناني عن المواجهة الأميركية الإيرانية. وقد فشل هذا الرهان خلال الأسابيع الأخيرة من ولاية الرئيس السابق دونالد ترامب، إذ اصطدم بمضاعفة إدارته ضغوطها على طهران وحلفائها في المنطقة، ومنهم النائب جبران باسيل الذي طالته العقوبات.

الآن هناك وضع سياسي جديد في المنطقة، يتمثّل بشكل رئيسي بإعلان الرئيس الأميركي جو بايدن العودة إلى المسار الديبلوماسي في التعامل مع إيران. لكنّ هذا المسار لا ينفكّ يزداد صعوبة وتعقيدًا، وهو ما يرخي بثقله مرّة جديدة على المبادرة الفرنسية.

بالتالي، فإنّ تغيّر الرئيس الأميركي لا يعني بالضرورة قدرة الفرنسيين على توسيع هامش استقلاليتهم عن السياسات الأميركية في المنطقة. بل إنّ جهودهم الديبلوماسية في لبنان والمنطقة لا تزال رهنَ هذه السياسات. وهو ما يمكن استشفافه بوضوح من تصريح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في الرابع من شباط، عندما عرض وساطته في الملف النووي الإيراني، تعقيبًا على طلب وزير الخارجية الإيرانية من الاتحاد الأوروبي التوسّط فيه.

قال ماكرون يومذاك إنّه سيقوم “بكلّ ما في وسعه لدعم أيّ مبادرة من جانب الولايات المتحدة للانخراط مجددًا في حوار مع إيران”. أي أنّه مستعدّ للوساطة بين الجانبين إذا قرّرت واشنطن فتح حوار مع طهران، وليس لدفعهما إلى الحوار.

ولم يكن إسقاط طهران في 8 شباط لوساطة ماكرون مفاجئًا، على لسان وزير خارجيتها محمد جواد ظريف. وذلك بعد يوم على رفض المرشد علي خامنئي العودة إلى الاتفاق قبل رفع الولايات المتحدة العقوبات عن بلاده. وهو موقف يتناقض مع أصل الوساطة التي طلبها ظريف من الاتحاد الأوروبي، والقائمة على تنسيق “خطوات متزامنة” بين الجانبين الإيراني والأميركي، لتجاوز إشكالية من “يبدأ أولًا”.

هذه التطورّات تعطي صورة حقيقية عن محدودية الدور الفرنسي في الملف النووي الإيراني، لاسيّما عندما تمضي طهران في تصعيدها “النووي”، من خلال مواصلة خرقها لبنود اتفاق 2015، وتصعيدها “العسكري”، من خلال مضاعفة وتيرة اعتداءات الحوثيين على أهداف مدنية في الداخل السعودي، وهجومهم على مأرب، وأخيرًا قصف فصائل موالية لإيران قاعدة جوية تؤوي جنودًا أميركيين في أربيل. وهذا كلّه يُحرج فرنسا ونظيراتها الأوروبية، الساعية منذ ثلاث سنوات إلى إنقاذ الاتفاق النووي لأسباب استراتيجية واقتصادية.

ولعلّ ما ينطبق على دور باريس في المنطقة، ينطبق على دورها في بيروت. إذ إنّ مبادرتها في لبنان ما تزال محكومةً بقدرتها على تحييد الملف اللبناني عن الصراع الأميركي الإيراني، أو على جعل حلّ الأزمة اللبنانية مقدّمةً من مقدّمات حلّ الأزمة النووية. وهذا أمرٌ، مرّة أخرى، يبدو أنّه غير ممكن، أقلّه في المدى المنظور، في ظلّ التصعيد الإيراني، وتشدّد واشنطن حيال شروط العودة إلى اتفاق 2015، ومنها ضمّ حلفائها الإقليميين، وفي مقدّمتهم السعودية، إلى مائدة المفاوضات، وتوسيع جدول أعمال هذه المفاوضات لتشمل البرنامج الصاروخي الإيراني، وزعزعة طهران لاستقرار المنطقة.

هذه المعطيات الجديدة في طريقة مقاربة واشنطن للملف النووي الإيراني، يُفترض أن تنعكس على موازين القوى المتّصلة بالصراع السياسي حول الحكومة في لبنان، ما دام سعي الإدارة الأميركية الجديدة لإحياء الاتفاق مع إيران، لا يعني قبول واشنطن بشروط طهران.

وهذا فرق أساسي بين مقاربتي كلّ من الإدارتين الديموقراطيتين السابقة والحالية للملف الإيراني. فهدف الرئيس الأسبق باراك أوباما، كان الوصول إلى اتفاق مع طهران بغضّ النظر عن موقف حلفاء أميركا في المنطقة من مضمونه، وبغضّ النظر أيضًا عن دور إيران الإقليمي. لذلك تصرّف ببرودة تجاه الأزمة السورية لكي لا يُغضب إيران، فتتعقّد مفاوضاته معها حول الملف النووي.

حاليًّا الاستراتيجية الأميركية مختلفة وتجمع بين هدفين: الوصول إلى اتفاق “أطول وأقوى” مع إيران، لمنعها من امتلاك قنبلة نووية، إضافة إلى ضبط برنامجها الصاروخي وتوسّعها الإقليمي.

هذه الجهود الدولية لإعادة صياغة خريطة النفوذ في المنطقة، من خلال الإصرار على شمول أيّ مفاوضات مع طهران سياساتها التوسعيّة في الإقليم، يُفترض أن تدفع القوى السياسية المعارضة للائتلاف الحاكم في لبنان، إلى وضع الأزمة الحكومية في سياق الأزمة الوطنية الرئيسة، المتمثّلة بسياسات الاستقواء التي ينتهجها هذا الائتلاف بقوّة السلاح.

بالتالي، فإنّ الصراع حول الحكومة، في اللحظة الإقليمية والدولية الراهنة، لا ينبغي أن يصوّر من قبل معارضي العهد أو/و حزب الله، كما لو أنّه صراعٌ طائفي تقليديّ على الحصص الحكومية بين الرئيس المكلف السنّي ورئيس الجمهورية الماروني. بل إنّ هذا الصراع، تحت مسمّى “حقوق المسيحيين”، متأتٍّ في الأساس من منحى الغلَبة الطائفية في الدولة والحكم، بفعل السلاح.

لذلك، فإنّ توصيف طبيعة الأزمة عاملٌ حاسمٌ في اتجاهات التدخّل الدولي في الملفّ اللبناني عبر المبادرة الفرنسية. فعزل الأزمة الحكومية الراهنة عن المعضلة الوطنية الأساسية، أي اتّكاء الائتلاف الحاكم على السلاح لتعطيل العملية السياسيّة، وفرض أعراف في الحكم من خارج الدستور، سيؤول بالمبادرة الفرنسية إلى تكريس موازين القوى الحالية أو بالحدّ الأقصى إلى إجراء تعديل طفيف فيها.

وفي الحالين فإنّ منطق الغلبة السائد سيبقي قرار الحكومة السياسي مرهونًا لقوى الأمر الواقع، حتّى لو كانت بكاملها من الاختصاصيين.

واستنادًا إلى تصريح ظريف، فإنّ إيران لن تسهّل حكومة لبنان قبل أن تقبض ثمنًا إقليميًّا موازيًا، وهذا غير وارد لفترة طويلة قد تمتدّ أشهرًا.

Exit mobile version