الأخبار- علي حيدر
انطلاقاً من هذه الحقيقة، بات أكثر وضوحاً لدى أعداء لبنان وحزب الله وحلفائه وخصومه، أنه بعد ردّ رسائل السيد نصر الله لقادة العدو وأجهزته العسكرية والاستخبارية، عادت «إسرائيل» مجدداً لتجد نفسها أمام المعادلة ذاتها التي أرساها حزب الله، والتي وضعت العدو أمام خيارين: إما الارتداع عن أصل العدوان، أو دفع أثمان متناسبة في مواجهة أي تجاوز للخطوط الحمر.
محاولة اكتشاف أهداف وسياق المعادلة التي وضع فيها السيد نصر الله العدو أمامها، تستوجب فهم ما سعى اليه قادة العدو في الأشهر الأخيرة تحديداً، والتقديرات والرهانات التي استندوا اليها، ومن ثم السيناريوات التي من الواضح أنها حضرت على طاولة مؤسسة القرار السياسي والامني، بعد المعادلة التي أرساها السيد نصر الله في خطابه أول من أمس: «مستعمرة مقابل قرية، ومدينة مقابل مدينة»، والتحذير من التدحرج من «أيام قتالية» الى حرب.
الواضح أن هناك رؤية متجذرة في الوعي الإسرائيلي، يُعبَّر عنها في الخطابين السياسي والإعلامي وفي معاهد الدراسات والأبحاث، بطرق وأشكال متنوعة، أنه بعد فشل الرهان على الجماعات الارهابية والتكفيرية، وفشل العقوبات الاقتصادية، ومحاولة حرف الاحتجاجات الشعبية على الواقع المتفاقم في لبنان، التي لم تنجح في تأليب بيئة حزب الله عليه، وجدت «إسرائيل» نفسها أمام معادلة قوة مغايرة في دلالاتها ورسائلها ونتائجها، لمّح اليها رئيس الاستخبارات اللواء تامير هايمن، قبل أيام، بأن تفاقم الوضعين الاقتصادي والصحي لم «يضر بجهود بناء القوة» لدى أعداء «إسرائيل».
في مواجهة هذا الواقع، يجهد العدو – بالاستناد الى قراءة محددة للواقع الداخلي بعناوينه السياسية والاقتصادية والصحية…، وعبر اتباع سياسة تهويل تميزت بارتفاع منسوبها – لفتح ثغرة في جدار الردع الاستراتيجي والعملاني الذي أرساه حزب الله، ومنع استمرار المعادلة التي حمت لبنان من الأخطار الخارجية.
أبرز من أطلق العنان وعمد الى الارتقاء في سياسة التهويل المدروس والهادف كان رئيس أركان جيش الاحتلال أفيف كوخافي، الذي أسهب في شرح الخطة والعقيدة العسكرية للجيش في مواجهة حزب الله، في كلمته أمام مؤتمر معهد أبحاث الأمن القومي الشهر الماضي. حرص كوخافي على تظهير سياسة استهداف المناطق المدنية وتبريرها، وكأنها المرة الاولى! ثم تكامل معه ما تمّ تسريبه بشكل مدروس ومقصود عن التقدير الاستخباري السنوي بخصوص لبنان، والتلويح بمعركة «أيام قتالية»… ثم أعقبت ذلك (كما سبقته) مناورات كان آخرها ما أعلنه العدو عن مناورة جوية مفاجئة، كان منسوب التغطية الإعلامية لتفاصيلها مرتفعاً جداً… الأمر الذي عكس البعد الدعائي لها أيضاً.
كان بإمكان العدو أن يعد الخطط والجاهزية من دون أن يُسرِّب أو يعلن عمّا أعلنه، لكن هذا التسلسل هدف الى محاولة ردع حزب الله عن الرد على أي اعتداء اسرائيلي، عبر دفع الحزب إلى تبنّي خيار الامتناع والانكفاء عن الرد على أي اعتداء إسرائيلي، بذريعة تجنّب الرد المضاد الذي سيتدحرج الى ما هو أسوأ. وليس من الصعوبة تقدير مخاطر هذا التغيير في المعادلة على الوضعين الأمني والاستراتيجي للبنان والمقاومة، ويمكن بسهولة استشراف المسارات والسيناريوات التي يمكن أن تتوالى في حال نجح العدو في خطته. سيكون الحد الأدنى فيها فتح الطريق أمام خيارات عملانية عدوانية مشابهة لما يجري في الساحة السورية.
من المؤكد أن ما خلص إليه قادة العدو في انتهاج خيار التهويل الذي يمارسونه، والخيار العدواني الواسع الذي يلوّحون به، يعكس الرهانات التي استندوا اليها، وكونه أتى في أعقاب «تقدير وضع» شاركت فيه القيادتان السياسية والعسكرية، وتم خلاله دراسة الخيارات والسيناريوات المتعددة. في مواجهة كل ذلك، أتت مواقف الأمين العام لحزب الله ورسائله. ومن الواضح أن النتيجة الفورية التي حققها منذ الآن، تبديد الرهان على ارتداع حزب الله، وبذلك وضع «إسرائيل» أمام خيارات وسيناريوات متعددة:
– الامتناع عن خيار «أيام قتالية».
– ردّ محدود على ردّ حزب الله، ثم الانكفاء بعد اتضاح التدحرج نحو أيام قتالية.
– اتخاذ قرار بشن اعتداء واسع، تحت عنوان أيام قتالية.
في السيناريو الاول يكون حزب الله قد حقق هدفه الردعي، خاصة أنه لا يريد حرباً ولا مواجهة عسكرية، بل تعزيز معادلة الردع التي تحمي لبنان.
في السيناريو الثاني، يكون حزب الله قد حقق أيضاً هدفه الردعي، لكن بعد محاولة العدو ردع حزب الله واكتشاف ارتفاع احتمال التدحرج، والتي ستلقى بالتأكيد رداً تناسبياً. وبذلك يكون حزب الله قد نقل «كرة النار» في هذه الحالة الى أحضان نتنياهو – كوخافي. وفي هذا السياق، أتى كلام رئيس الاستخبارات العسكرية السابق، ورئيس معهد أبحاث الامن القومي اللواء عاموس يادلين، صباح أمس، «يجب أن نأخذ تهديدات نصر الله بجدية، لكن يجب أن نتذكر أن نصر الله يمارس قتال الحرب النفسية وعلى الوعي… (إنه) خبير بالحرب النفسية الردعية، وإنه يريد ردع الاسرائيليين الذين لا يريدون حرباً»، مؤكداً أيضاً أن هناك حالة ردع متبادل بين اسرائيل وحزب الله.
في السيناريو الثالث، يكون العدو قد اتخذ قراراً بتغيير المعادلة مع لبنان، ويعني ذلك أنه مصمّم على توسيع نطاق اعتداءاته تحت عنوان «الأيام القتالية». في هذه الحالة يكون حزب الله أمام خيار وحيد، وهو إحباط الهدف الاستراتيجي لهذا السيناريو من خلال مواجهته، وجبي أثمان مؤلمة من العدو بهدف إعادة تجديد وتعزيز قوة ردع لبنان والمقاومة وتكريس المعادلة التي وفّرت الحماية لبنان، والتأسيس لمعادلة ردع بمستويات جديدة، قد يكون لها تداعياتها الإقليمية أيضاً.
لكن حدود الأيام القتالية التي يمكن أن يكون لها سيناريوات وسقوف متعددة، وإمكان تدحرجها الى حرب لا يريدها حزب الله، ابتداءً، مرهونة بمدى تورّط العدو في رهاناته وتقديراته التي ستُحدِّد منسوب مغامرته العدوانية. وقد أصبح واضحاً للعدو أكثر من أي وقت مضى أن كل سقف وسيناريو منها سيلقى رداً تناسبياً بما يعزز معادلة الردع.
مع ذلك، تجدر الاشارة، ولو بشكل إجمالي، الى حقيقة ينبغي استحضارها في مواجهة هذه السيناريوات، وهي أن متغيرات نوعية متعددة في القدرات والجغرافيا واتساع نطاق التحالفات قد استجدت، لتكشف وتؤكد أن المقاومة، مع أيام قتالية أو من دونها، أصبحت أيضاً أكثر ثقة بقدرتها على تحقيق انتصارات بمستويات أعلى بكثير ممّا تحقق سابقاً. وهذا ما أجمله السيد نصر الله بالقول إن الجبهة الداخلية للعدو ستشهد في أي حرب يشنها على لبنان والمنطقة، ما لم يشهده منذ عام 1948. والترجمة العملية لذلك أن المقاومة تملك الإرادة والقدرة على خوض ومواجهة أي سيناريو يحاول العدو فرضه على لبنان والمنطقة. وفي هذا المجال، رغم أن يادلين حاول في تعقيبه على كلام السيد نصر الله، احتواء وقع رسائله عبر محاولة التركيز على تطور قدرات الجيش الاسرائيلي، إلا أنه وجد نفسه مضطراً إلى القول إن «نصر الله لا يبالغ ولا يهدّد فقط، فلديه القدرات التي لم تكن لديه في العام 2006، وكذلك لدينا قدرات لم تكن موجودة لدينا حينها».
قد يكون مفاجئاً للبعض أن هذه الحقيقة تحضر أيضاً لدى قيادة جيش العدو، وتم الكشف عنها في وثيقة سرية تم تسريبها من داخل الجيش في وسائل الاعلام الاسرائيلية، قبل سنتين، («الأخبار»، السبت 9 شباط 2019). والاهم أن من صاغ هذه الوثيقة في حينه هو نائب رئيس الاركان اللواء يائير غولان (أي المسؤول عن مشاريع بناء القوة). كشفت الوثيقة عن حقيقة رؤية جيش العدو لما قد يترتّب على أي حرب في المنطقة من نتائج، بالقول إن «الضربة التي ستوجه إلى الجبهة الداخلية ستكون (في الحرب المقبلة) أكبر ممّا تحتمله، وأن إخفاق حرب يوم الغفران (حرب تشرين العام 1973) سيكون «نزهة» قياساً بالضربة التي ستوجه إلى الجبهة الداخلية».