طوني عيسى-الجمهورية
الأرجح أنّ المبادرة الفرنسية وصلت إلى مفترق مصيري: إمّا أن تنجح وإمّا أن يُطلِق عليها صاحبها، الرئيس إيمانويل ماكرون، رصاصة الرحمة. والمعيار الأول هو: هل هناك حظوظ ليشكّل الرئيس سعد الحريري «حكومة ماكرون» أم لا؟
بالنسبة إلى ماكرون، معركته في الشرق الأوسط وحوض المتوسط، بما في ذلك لبنان، هي أيضاً معركة وجوده السياسي في الداخل الفرنسي أيضاً. فهو يحارب لتحقيق الانتصارات الخارجية بهدف تدعيم رصيده الداخلي، فيما خصومه الدوليون يراهنون على إضعافه في الانتخابات الرئاسية التي باتت على الأبواب.
المواجهة الأقسى كانت مع الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب الذي لطالما عَيَّره بأنه ضعيف شعبياً، وتعاطى بشَماتة مع ظاهرة «القمصان الصفر» التي أتعبَت ماكرون لفترة طويلة. وفي حزيران 2019، خلال الاحتفال بذكرى إنزال الحلفاء في النورماندي في الحرب العالمية الثانية، أطلق ماكرون فكرة قيام جيش أوروبي موحَّد يدافع عن القارة، فردّ عليه ترامب بالسخرية وبتسديد ما تكبّده الأميركيون دفاعاً عن أوروبا.
أكثر من ذلك، فرض ترامب رسوماً على واردات أوروبية أساسية، وانسحب من اتفاق باريس للمناخ وجمَّد دعم منظمة الصحة العالمية، وطبعاً خرج من الاتفاق النووي مع إيران، خلافاً للأوروبيين.
كما شجّع ترامب بريطانيا على الخروج من الاتحاد الأوروبي، وسمح لتركيا أردوغان بالتجرؤ على فرنسا في المتوسط وأرمينيا، وعلى واليونان وقبرص. وبقي يقدِّم الدعم المعنوي لقادة اليمين المتطرف في أوروبا، ومنهم رئيس حكومة المجر فيكتور أوربان، وكذلك لزعيمة «التجمع الوطني» في فرنسا مارين لوبين.
«القدَر»، أي موعد الانتخابات الأميركية، هو الذي ساعد ماكرون على النجاح في رهانه والصبر حتى هزيمة اليمين في البيت الأبيض، ومجيء جو بايدن الأقرب إلى منهج التفكير الأوروبي. واليوم، هو يراهن على بناء مرحلة مثمرة من التعاون مع الأميركيين في ما يتعلق بالقضايا الدولية.
لكن طبيعة اللعبة هنا تبقى إيّاها: بالوقت كسب ماكرون المعركة على ترامب. ولكن، الآن جاء دوره. وهو يستعد لمعركة رئاسية غير مضمونة النتائج في ربيع العام 2022.
لقد ذهب ترامب، لكنه ترك ماكرون يواجه معركة محتدمة مع حليفه، اليمين الفرنسي المتطرف. وكان لافتاً تحذير وزير المال برونو لومير، قبل يومين، من أنّ فوز لوبان في الانتخابات الرئاسية هو «أمر محتمل».
وبالأرقام، أظهرت الاستطلاعات الأخيرة أنّ ماكرون ربما يَهزم لوبين في المعركة، ولكن بصعوبة. فهي حصلت على 48 % من أصوات المستطلَعين، وهذا رقم مثير لقلق الرئيس الفرنسي، إذ إنّ منافِسته لم تحقّق في معركة 2017 الرئاسية سوى نسبة 30 %.
على ماكرون أن يكسب 5 سنوات أخرى في الإليزيه ليحقّق الأهداف التي كانت مرسومة للولاية الحالية. ولذلك هو في العام الأخير يحتاج إلى انتصارات سريعة وقوية خارجياً، وخصوصاً في البقعة الحيوية لفرنسا، أي الأورو- متوسطية، ما يمنحه رصيداً قوياً في الرأي العام الفرنسي.
الإيجابي هو أنّ بايدن بادر إلى ترميم سريع للتشقّقات مع الأوروبيين، ومع فرنسا خصوصاً، بالعودة إلى اتفاقية المناخ ومنظمة الصحة العالمية وهزّ العصا لحكومة أنقرة وفتح أقنية التعاون مع أوروبا في ملفات عدّة، ومنها الشرق الأوسط وإيران.
ولكن، هذه المرّة، ماكرون هو المَحشور بالوقت تجاه بايدن الذي لم يكد يبدأ ولايته، خلافاً لوضعية ترامب الذي كان محشوراً في الأشهر والأسابيع الأخيرة من ولايته. ولكن، من المفارقات أنّ غالبية الدول المعنية في الشرق الأوسط تنتظر استحقاقات التغيير في الأشهر القليلة المقبلة، أو في السنة المقبلة حدّاً أقصى.
في إسرائيل يرجّح بقاء بنيامين نتنياهو بعد الانتخابات العامة الرابعة خلال عامين، الشهر المقبل. وفي طهران، قد يراهن الغربيون على تغيير في الرئاسة، في حزيران المقبل، يؤدي إلى تغيير في النهج. ولكن، على الأرض يتم التحضير لمعركة بين مرشحين متشددين. والقرار على الأرجح سيبقى في يد مرشد الثورة علي خامينئي.
وبين الملفات التي يستعجل ماكرون تحقيق خروقات فيها، الملف اللبناني، لِما لذلك من تأثير على صورته في الداخل الفرنسي. ومع وصول بايدن، حاول ماكرون أن يمرّر طروحاته في لبنان، معتقداً أنّ الأميركيين سوف «يغضّون النظر»، وشجّع الرئيس سعد الحريري على تأمين تغطية داخلية وعربية لذلك.
ولكن، سرعان ما اكتشف ماكرون أنّ المحاولة عقيمة. فصحيح أنّ الأميركيين سيكونون الرقم 1 في قيادة الملف اللبناني وسيعطون الفرنسيين حصةً معينة، لكن الصحيح أيضاً أنّ من المستحيل على الفرنسي أن ينجح بمعزلٍ عن الأميركي في لبنان.
ولذلك، جاء الحريري من لقاء الإليزيه وطرح مجدداً «حكومة المستقلين» التي وردت في مبادرة ماكرون الأساسية، والتي كانت ترضي واشنطن، لكنّ الإيرانيين يرفضونها. وموقف عون يخدم رغبة إيران في منع تسليم البلد لـ»حكومةِ المبادرة». وعلى الأرجح، سيتصاعد «الكباش» حادّاً بين ماكرون وعون.
المفارقة هي أنّ كلّاً من الرجلين يستعد للدخول في العام الأخير من ولايته: عون في خريف 2022ن وماكرون قبلَه في ربيع 2022. ولكن، في ذاك الربيع اللبناني موعدٌ (افتراضي) مع الانتخابات النيابية التي قد تؤجَّل إلى ما بعد الخريف ليُتاح لهذا المجلس أن ينتخب الرئيس الجديد… أو يمدِّد له… أو يفعل أي شيء آخر.
المرحلة حافلة بالرهانات على الانتظار. ولكن، مَن يقول «آخ» أولاً؟ ومن ينسَحب عن المسرح قبل الآخر: ماكرون أم عون أم أحد آخر؟