“ليبانون ديبايت” – عبدالله قمح
الجمود الذي يُسيطر على مسار تأليف الحكومة مُرشّح نظرياً لأن يمتد إلى ما بعد الشهر الأول من العام الجديد. ثمة من يتنبأ بزحف الجمود إلى حدود الربيع المقبل. يعود السبب إلى الاستعصاء الذي يواكب التأليف، داخلياً وخارجياً.
في محيط كل من رئيس الجمهورية والتيار الوطني الحر وحزب الله و “الثابتون” على نهج 8 آذار، تصور يستند إلى معطيات تفيد بأن الحالة الحكومية ستبقى راهناً عند هذا المستوى من التعقيد، ربطاً بطبيعة التوازنات الداخلية وما دام ان هذه التوازنات هي نفسها وغير قابلة للكسر، وليس للأمر صلة بشكل الادارة الأميركية الجديدة. وما دامت القضية كذلك، ستبقى الحكومة في عالم المجهول حتى تتأمن تنازلات أو اختراقات.
وعلى النهج نفسه، ثمة “رزمة” مطالب أميركية حيال طبيعة التمثيل داخل الحكومة. ينسحب ذلك على حزب الله والتيار الوطني الحر ورئيس الجمهورية وحركة أمل، وهذا دون أدنى شك عامل منسق أوروبياً من البوابة الفرنسية التي باتت تميل إلى الطغيان الاكثري داخل القارة العجوز، الذي بات يميل إلى إعتبار الدولة اللبنانية “دولة فاشلة”، وعليه ثمة موجبات مطلوبة لهذا الإعلان المجمد راهناً.
ولهذا الوضع المعقد حكومياً اسباباً داخلية لا تقل شأناً. فـ”عون” والحريري والنائب السابق وليد جنبلاط وإلى حدٍ ما رئيس مجلس النواب نبيه برّي وآخرين، يعتقدون أن الحكومة العتيدة هي حكومة ادارة البلد بعد فراغ كرسي العهد. يعني أن من الضروري ضبط توازناتها. لذا، فإن الصراع مبرر الآن ويدور على أكثر من صعيد، وسيبقى كذلك ما دام ان البعض بات شبه مقتنع باستحالة انتخاب رئيس بشكل سريع عند حلول المدة، لذا، يعمل على محاولة وضع أسس لإدارة البلد، أشبه بخطة طوارئ قابلة للتنفيذ متى دعت الحاجة إلى ذلك.
لكن صودف، ان البلد يُقبل على هذه المرحلة وسعد الحريري رئيساً مكلفاً، او عملياً، طرفاً في الحل والازمة في آن، وهو يرزح تحت جملة تحديات: تحدي الإصلاح والإعمار الذي وعد به الفرنسيين، ثم تحدي ضم حزب الله الى الحكومة. والحريري هنا عملياً يُمارس أكبر عملية “تضليل” محاولاً الإيحاء بأنه ليس في هذه الوارد بتاتاً بدليل الصورة التي قدم تشكيلة خلالها إلى الرئيس، والتي جاءت منزوعة من تمثيل الحزب. لكنه “من تحت لتحت” يحاور حزب الله بدليل ما قاله السيد حسن نصرالله “ذائع الصيت” في مجال الصدق.
وهناك تحدي الوصول بتشكيلة عالية من صنف الوزراء الدسمين الى السراي بجوهر سياسي مغطى بطبعة الاختصاص! لتأمين ذلك مطلوب “نزع القوة” من الرئيس والتيار بصفتهما يمثلان جزءاً من الغالبية، وفي مسعاه نذر تدل إلى أن الحريري يؤلف حكومة إدارة الفراغ المتوقع رئاسياً، تماماً كما يفاوض الآخرين على تحديد مواقعهم منذ الآن على خريطة الفراغ.
وهؤلاء يدركون أن المجلس النيابي الحالي، بتوازناته، هو المخول إنتخاب رئيس جديد للجمهورية قبل نهاية ولايته بمدة قليلة. وطالما أن التوازنات لا تسمح بإختيار رئيس مختلف عن عون أقله بالمعنى الاستراتيجي، عندئذٍ مطلوب تأخير الانتخابات إلى حين يجري تأمين توازنات مختلفة من خلال انتخابات نيابية مختلفة، وهنا ايضاً لا يمكن ضمان حصول انتخابات نيابية في موعدها منذ الآن، وهذا مرتبط طبعاً بجملة قضايا.
الى ذلك الحين المطلوب أن يكون الحريري حاكماً، حاكماً للبلد والحكومة، وطالما أن الوضع على هذا النحو، فيجب أن يرسي حكمه على دعائم سياسة أساسية، قوية مختلفة، تعود بعناصر ومصادر القوة إليه. يتزامن ذلك مع ارتفاع صراخ الدعوة لاستقالة رئيس الجمهورية.
في الحقيقة، تلك الدعوة التي بدأت تشكيلة واسعة تنضم إليها ومنهم اقطاباً على وزن وليد جنبلاط وسمير جعجع وغيرهم، هدفها الحالي ليس توفير أجواء لدفع الرئيس صوب الاستقالة. هم يعلمون أن عون ليس الشخص المناسب لتدوين نص استقالته وتوقيعها ومن ثم المغادرة، بل يريدون من وراء الدعوة إرساء أجواء متشنجة تسهم في نزع الصفة التي حازَ عليها عون زمن انتخابه، أي كونه رئيس متفاهم عليه أو مقبول من قبل أكثر من مكون، وثانياً تمهيد البيئة الشعبية لانتخابات أخرى، لكن ليس بمفاعيل رجعية تشبه عون، بل المطلوب تكريس قواعد جديدة تؤدي لانتخاب رئيس “مختلف”.
في غمرة هذا الأجواء، لا يمكن لسعد الحريري بصفته رئيساً مكلفاً من خلفية إمتداد ولاءات ومصالح متشعبة خلف الحدود، إلا أن ينصاع الى هذه المنطق، لكنه الآن يعمل على إيهام الجميع بعدم علاقته بأي من تلك الأدوار. بيد أن أسلوب تأليف الحكومية يخالف ذلك، فالحريري، كما جعجع وجنبلاط وفارس سعيد وحشد من بقايا صقور 14 آذار، يتقاطعون عند نفس النقطة “سلب القوة السياسة من الرئيس”، وسعد الحريري بتشكيله الحكومة من الطراز الذي يطرح، يصبح عملياً متهماً بالمساهمة في الانقلاب ونزع مصادر القوة من الرئيس.
بخلفية ذلك، طبيعي أن يكون حزب الله متموضعاً في الخانة المقابلة. مع ذلك يبقى قناةً مفتوحة مع الحريري، والأخير يعلم مدى دقة وحضور الحزب على الساحة السياسية، لكنه يفصل بين طريقة تعاطيه مع عون وعهده وطريقة التعاطي مع حزب الله، وهو أسلوب يريد منه أن يرخي ظلالاً من الشك حول أدوار الحزب.
يحاول الحريري إقناع حزب الله بدخول الحكومة عبر آخرين، لكنه يدرك فى باطنه السياسي أن الحزب ليس في هذا الوارد. المطلوب أن يقتصر دور الحزب على قول “نعم” على الإسم الشيعي الذي يقترحه الحريري، في عودة تقريباً إلى الأسلوب الذي اعتمدَ خلال مرحلة مصطفى أديب. حزب الله يرفض وما زال وسيبقى كذلك، بينما الحريري يحاول وسيبقى ما دام أن النتائج يعمل على محاولة استثمارها في الخارج من قبيل تصور أنه يزاحم حزب الله، والحزب يعلم ويصمت “لدواعٍ خاصة”.
يعود رفض الحزب إلى جملة عوامل ايضاً متصلة بطبيعة ما يراد تركيبه لاحقاً. في النتيجة، ترأس الحريري لحكومة منزوعة من عناصر قوة الأكثرية المتمثلة بوضوح في مجلس النواب، أضحى مطلباً يصبح بمستوى خطورة سياسة واضحة سواء بالنسبة للحزب أم التيار عند حلول زمن الفراغ الرئاسي! لذا يُعمل على محاولة “تهذيب الحريري” وإسقاط ظروف تحوله إلى حاكمٍ بأمره في حكومة “مبتورة” من الأكثرية، مدة تسمح ربما بتركيب ما لم يتمكن من تركيبه ضمن الفترة السابقةن ومن لا يحسب لا يسلم!