توحي التهديدات التي يطلقها الرئيس الأميركي المنصرف، بأنه يُعد العدة لقصف إيران. قد يكون هذا الطلب الأخير الذي سيلبيه لـ”صديقه” بنيامين نتنياهو، قبل أن يتجرع مرارة الخروج من الرئاسة مكرهاً ورافضاً لنتائج انتخابات الثالث من تشرين الثاني/نوفمبر. ومهما كانت الظروف التي ستحوط بمغادرته البيت الأبيض، سيحاول ترامب تصوير رئاسة جو بايدن، وكأنها بمثابة وقت مستقطع لن يلبث وأن يعود هو نفسه إلى المنصب في 2024. ويدل سلوكه على أنه لا يعتزم مغادرة الحياة السياسية، بل يعتزم قطع الطريق على أي مرشح جمهوري آخر يصبو إلى الرئاسة.
وبالتركيز على إيران، في المسافة الفاصلة عن 20 كانون الثاني/يناير، يخلق ترامب مناخاً حربياً ويجعل المنطقة تعيش وكأن الضربة الأميركية لا بد آتية، وأن المسألة تتعدى أخذ الاحتياطات من احتمال توجيه إيران ضربة إنتقامية في الذكرى السنوية لمقتل قائد “قوة القدس” في الحرس الثوري الإيراني الجنرال قاسم سليماني في 3 كانون الثاني/يناير 2020 قرب مطار بغداد بواسطة طائرة أميركية مسيرة، بأمر من الرئيس الأميركي نفسه.
لا يمر يوم، ولا يصدر فيه تحذير من ترامب أو من جنرالاته من مغبة إقدام إيران على الانتقام لسليماني. وفي ما يشبه الإنذار الأخير، بعد سقوط صواريخ كاتيوشا قرب السفارة الأميركية في المنطقة الخضراء ببغداد الأحد الماضي، قال ترامب إن واشنطن ستتحرك إذا سقط قتيل أميركي واحد في العراق، أي أنه جعل الحرب على مسافة صاروخ كاتيوشا، وهذا ما يعيد إلى الذاكرة، إنذار رئيس وزراء إسرائيل مناحيم بيغن قبل غزوه لبنان في حزيران/يونيو 1982، عندما حذر منظمة التحرير الفلسطينية من مقتل أي إسرائيلي بصواريخ الكاتيوشا التي كانت تطلقها المنظمة من جنوب لبنان، فجاءت محاولة اغتيال السفير الاسرائيلي في لندن شلومو أرغوف في 3 حزيران/يونيو 1982 (قيل أن جماعة “فتح ـ المجلس الثوري” بزعامة أبو نضال ـ صبري البنا ـ هي التي نفذت العملية) الذريعة التي اتخذها بيغن للغزو عامذاك.
طبعاً، لن يطلق ترامب غزواً لإيران، وإنما يخطّط لشن عمليات جوية وصاروخية خاطفة لتدمير بناها التحتية والصاروخية ومنشآتها النووية، بذريعة تعرض المصالح الأميركية لهجمات من فصائل عراقية مدعومة من إيران.
لا يريدها ترامب حرباً طويلة، وإنما ضربة موجعة لإيران، تكون أبعد مدى في تأثيرها من اغتيال سليماني وكبير العلماء النووين محسن فخري زاده، ومن الضربات الجوية الإسرائيلية على فصائل تدعمها إيران في سوريا. وهو يراهن في الوقت نفسه، على أن تعليق الإيرانيين الآمال على بايدن للعودة إلى الاتفاق النووي وتالياً رفع العقوبات، سيجعل القيادة الإيرانية تبتلع كبرياءها مجدداً، ولا ترد على الضربة الأميركية، أو في مطلق الأحوال، تعلن وقف التزاماتها كلياً بما تبقى من بنود الاتفاق النووي. وبذلك تعود إيران إلى ما قبل عام 2015، ولا تعود مسألة رفع العقوبات مسألة سهلة على بايدن. ويكون ترامب وجه بذلك ضربة قاضية لاتفاق فيينا.
لكن إذا كان هذا ما يدور في ذهن ترامب، فما هي الضمانات بأن لا ترد إيران على الضربة الأميركية، وبأن لا تنزلق المنطقة كلها نحو إنفجار كبير؟ ومن قال إن عروض القوة الأميركية، لا تجد صدى سيئاً في روسيا والصين حتى. وبعد أيام من تحليق قاذفات “بي-52″ الاستراتيجية الأميركية قرب المجال الجوي الإيراني في 10 كانون الأول/ديسمبر، نفذت 6 قاذفات روسية وصينية مناورات مشتركة فوق منطقة آسيا-المحيط الهادىء لـ”دعم الإستقرار الإستراتيجي في العالم”. وليس خافياً ما ينطوي عليه ذلك من رسائل ردع متبادلة بين القوى العظمى، في لحظة سياسية بالغة التوتر والتعقيد في الخليج.
والصين ستكون من أشد الدول المتضررة في حال اندلاع مواجهة كبرى في الخليج، لأن عجلة اقتصادها لا تزال تعتمد في دورانها على النفط المستورد من المنطقة. وأي انقطاع في الإمدادات سيؤثر بشدة على الإنتاج الصيني. كما أن روسيا التي لا تبعد عنها إيران كثيراً، لا بد وأن ينتابها القلق لحريق آخر في الشرق الأوسط.
ومع ذلك، حسابات ترامب مختلفة، ومضبوطة على ساعة نتنياهو وما تبقى من الرؤوس الحامية في الإدارة الأميركية الآفلة. في هذا السياق، جاء كلام مستشار الأمن القومي الأميركي روبرت أوبراين، وفيه تذكير للإيرانيين، المترقبين لولاية بايدن، أن ترامب هو الرئيس الوحيد للولايات المتحدة “حتى 20 كانون الثاني/يناير على الأقل”. بدا اوبراين من استخدام عبارة “على الأقل” وكأنه لا يجزم بانصراف ترامب. وينصح أوبراين، في معرض التهديد، إيران بعدم اختبار الرئيس الجمهوري خلال هذه الفترة.
إذن، يبحث ترامب عن الذريعة، التي سيستخدمها لفتح أبواب الجحيم مجدداً في الشرق الأوسط. وقد يطل بايدن من على شرفة البيت الأبيض، على أرض محروقة في المنطقة، في ما لو قيّض للرئيس المنصرف تحقيق أمنيته.