على مدى ربع قرن، نجح د. محسن فخري زاده بالتعاون مع مجموعة من الكوادر الشابة ممن أصبحوا اليوم علماء من الطراز الأول في مجال الطاقة النووية الإيرانية، في التأسيس لتقنيات جديدة ومتطورة في العلوم النووية الإيرانية. قفزة جعلت إيران ـ التي كانت تتأخر أربعين عاماً عن الدول المتقدمة في مجال الطاقة النووية ـ تدخل نادي الدول العشر الأوائل في الطاقة النووية.
منذ الساعات الأولى لحادثة الإغتيال، ظهرت الكثير من التحليلات والتقارير التي تحدثت عن كيفية تنفيذ العملية ومن يقف وراءها. هذا التقرير لن يتناول البعد الأمني بل مقاربة ماهية الإجراءات التي تنوي إيران إتخاذها بعد اغتيال فخري زاده، من زاوية أن هذا الأمر هو الأهم في الوقت الحالي.
ما هي المنزلة التي بلغتها إيران في مجال العلوم النووية؟ وما هي الأسس التي أرساها علماء الطاقة الذرية الإيرانية تحت قيادة محسن فخري زاده بعد خمسة وعشرين عاماً من الأبحاث العلمية والفنية؟
نجحت دولة باكستان، وبجهود عبد القدير خان في إنتاج جيل من القنابل النووية على أساس استخدام الماء الخفيف (الماء العادي) وإنتاج جيل من أجهزة الطرد المركزي المعروفة عالمياً باسم p1 لتخصيب اليورانيوم، ويمكن القول إن التكنولوجيا النووية في باكستان تعتمد على تخصيب اليورانيوم على أساس الطريقة التقليدية، وهذه التقنيات هي ذاتها التي تمتلكها إيران في موقع نطنز النووي وتستخدمها لأغراض سلمية.
أما الهند فهي تمتلك قنبلة ذرية تم إنتاجها على قاعدة الماء الثقيل وذلك بمساعدة الولايات المتحدة الأمريكية التي منحتها عشرين طناً من الماء الثقيل لكي تتمكن من إنتاج القنبلة الذرية، وهذه التقنية أيضاً تمتلكها إيران في مفاعل أراك لإنتاج الماء الثقيل. وهنا أيضاً تستخدم إيران هذه التقنية للأغراض السلمية فقط.
من خلال هذين المثالين يمكن مقاربة المكانة العلمية التي بلغتها إيران في مجال العلوم النووية ويمكن القول إن إيران تمتلك التكنولوجيا الهندية والباكستانية في مجال العلوم النووية مجتمعة.
ما هي مقومات البرنامج النووي الإيراني؟
لدى إيران ثماني نقاط قوة في التكنولوجيا النووية والذرية هي الآتية:
- القدرة على إنتاج أجهزة الطرد المركزي المتطورة وإمتلاك أجيال حديثة من أجهزة الطرد المركزي تعرف باسم IR6 وIR8 “(آي آر 6″ و”آي آر 8”)، ما يعني أن إيران ليست قادرة على تخصيب اليورانيوم بدرجات مرتفعة وحسب بل قادرة على زيادة سرعة تخصيب اليورانيوم عشرة أضعاف.
- تقنية الإنشطار النووي في منشأة نطنز النووية بالماء الخفيف.
- تقنية الإنشطار الذري في مفاعل أراك النووي بالماء الثقيل.
- تقنية إنتاج الماء الثقيل في مفاعل أراك.
- إمتلاك مصادر كافية من الكعكة الصفراء اللازمة لإنتاج اليورانيوم.
- مئات العلماء النوويين الجدد ممن تتراوح أعمارهم بين 28-32 عاماً وكل عالم من هؤلاء هو جزء من البنية التحتية النووية الإيرانية لثلاثين سنة مقبلة.
- إمتلاك ثروات ضخمة من النفط والغاز والمعادن، ما يؤمن التمويل اللازم للبرنامج النووي.
- الطواقم النووية الإيرانية أصبحت منظمة وفق هيكلية إدارية لها خصوصيتها، وهي تحظى بدعم مطلق من قبل المرشد الأعلى آية الله السيد علي خامنئي والمؤسسات العسكرية والأمنية، كما أن غالبية الإيرانيين تدعم هؤلاء العلماء وتعتبرهم رموزاً تتفاخر بهم أمام الشعوب الأخرى، ومن بين هؤلاء الطواقم يمكن الإشارة إلى محسن فخري زاده مهابادي وأيضاً فريدون عباسي (زميل فخري زاده منذ 34 عاماً) رئيس منظمة الطاقة النووية الإيرانية السابق والنائب الحالي في البرلمان الإيراني والذي تعرض لعملية اغتيال فاشلة في كانون الأول/ديسمبر 2010 على يد “الموساد”.
بناء على ما تقدم، تمتلك إيران ثماني مقومات تجعل منها قوة نووية عظمى، وإنطلاقاً من هنا فإن الفارق الوحيد بين إيران ودول مثل أميركا واسرائيل وروسيا وفرنسا والصين وكوريا الشمالية والباكستان والهند وإنجلترا، هو أن إيران لا تملك القنبلة النووية التي تمتلكها تلك الدول، وبعبارة أخرى إيران ليس لديها الإرادة السياسية لكي تنتج القنبلة النووية لأن ما يحول بينها وبين القنبلة النووية هو الإرادة السياسية فقط وهذا دليل على أن إيران لديها قدرات تقنية غير قابلة للتشكيك.
مقارنة إيران بألمانيا واليابان
من المفيد مقارنة إيران بدولتين تمتلكان تكنولوجيا نووية تستخدم لأغراض سلمية ولا تمتلكان أسلحة نووية، وهما ألمانيا واليابان. هاتان الدولتان، وبعد الحرب العالمية الثانية، تعهدتا بعدم السعي لاستخدام التكنولوجيا النووية لأغراض عسكرية، ولكن ماذا لو أرادتا ذات يوم عدم الخضوع للسياسة الأمريكية؟ هل ستكونان قادرتين على إنتاج الأسلحة النووية؟
لا شك أن الإجابة هي نعم، وجميع المعطيات والأرقام تشير إلى أن ألمانيا إذا امتلكت الإرادة السياسية يمكنها إنتاج القنبلة النووية خلال 15 يوماً واليابان أيضاً يمكنها إنتاج القنبلة النووية خلال ثلاثين يوماً، يأتي هذا في وقت يجمع فيه عدد من الخبراء وحتى مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية بأن إيران وفي أسوأ الأحوال تضاهي اليابان في مجال التكنولوجيا النووية.
من هو الشخص الذي اغتالته اسرائيل؟
هو العالم الإيراني النووي البارز، رئيس مركز الأبحاث الفيزيائية الإيرانية السابق، رئيس قسم الأبحاث المتطورة في وزارة الدفاع والقوات المسلحة الإيرانية، عضو الهيئة التعليمية في جامعة مالك الأشتر وجامعة الإمام الحسين التابعتين للحرس الثوري، لديه دراسات وبحوث واسعة في مجال العلوم النووية وكشاف الجسيمات (Particles detector) واستخدام الليزر في النظم الدفاعية الإيرانية لإسقاط الطائرات المسيرة المعتدية وقد تمكن من تأهيل العشرات من العلماء الشباب في هذه المجالات وغيرها.
ويقول الدكتور فريدون عباسي إنه تعرف للمرة الأولى على فخري زاده في “معركة رمضان”، وهي إحدى المعارك التي خاضها الحرس الثوري الإيراني ضد الجيش العراقي في ثمانينيات القرن الماضي لتشكل نقطة إنطلاقة صداقة قوية جمعت بينهما لعقود كانا يعملان خلالها في البرنامج النووي الإيراني.
وحسب عباسي، فإن فخري زاده تعرض لأول عملية اغتيال فاشلة عام 2008 وقد سأل جهاز الإستخبارات الإنجليزية MI6 عن فخري زاده كما أن أجهزة أمنية غربية حققت في مناسبات عديدة مع علماء إيرانيين في فرنسا وهولندا ودول شرق آسيا مثل سنغافورا بهدف جمع معلومات حول فخري زاده.
ماذا بعد عملية الإغتيال؟
بعد يومين من اغتيال فخري زاده، أثار النائب الحالي في البرلمان ورئيس المنظمة النووية الإيرانية السابق الدكتور فريدون عباسي موضوع خروج إيران من الإتفاق النووي وإيقاف العمل بالبروتوكولات الإضافية وأيضاً الخروج من معاهدة منع إنتشار أسلحة الدمار الشامل NPT، وذلك في موقف هو الأكثر تشدداً منذ توقيع الإتفاق النووي قبل خمس سنوات، وقال عباسي إن إيران “لم تسع وراء صناعة الأسلحة النووية ووافقت على هذه البروتوكولات، ولكن بما أنهم يصرون على خلق المشاكل يجب أن ندرس برامج تدريجية لإيقاف العمل بهذه البروتوكولات وبعدها يجب أن نتصدى لمفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية وبعدها أيضاً يجب أن نخرج من الإتفاق النووي، وإذا لم يتوقفوا عن إلحاق الضرر بنا يجب أن نخرج من معاهدة منع انتشار أسلحة الدمار الشامل ولكن إذا ألغوا العقوبات المفروضة علينا سوف نبقى في معاهدة منع انتشار أسلحة الدمار الشامل وإذا لم يفعلوا يجب أن نخرج من معاهدة NPT حتى إذا كان الثمن تعرضنا لهجوم عسكري”.
خطاب عباسي الناري سرعان ما وجد آذاناً صاغية في البرلمان الإيراني، فكان أن صوّت 251 نائباً من أصل 290 نائباً لصالح مشروع أقره البرلمان الإيراني (راجع مقالة نشرها موقع 180 للزميل علي منتظري في 13 تشرين الثاني/نوفمبر الماضي بعنوان “هل يستدرج المحافظون واشنطن بالضغط النووي“)؟
تبنى البرلمان الإيراني مشروعاً يقضي بوقف التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية ووقف الالتزام الطوعي بالبروتوكول الإضافي في الإتفاق النووي الذي يسمح لمفتشي الوكالة الدولية بإجراء حملات تفتيش مباغتة على المواقع النووية الإيرانية. لم تمض ثلاثة أيام على اغتيال فخري زاده، حتى تم تصويب المشروع في البرلمان ليصبح كالآتي: “مشروع إجراء إستراتيجي من أجل إلغاء العقوبات والحفاظ على مصالح الشعب الإيراني”، وذلك في جلسة علنية عقدت يوم الثلاثاء في 30 تشرين الثاني/نوفمبر الماضي. وقد أبلغ رئيس البرلمان الإيراني محمد باقر قاليباف الرئيس حسن روحاني بالقانون الجديد الذي هو بمثابة إعلان عن خروج إيران من الإتفاق النووي في حال لم تلتزم أميركا والدول الأوروبية بتعهداتها الإقتصادية تجاه إيران خلال شهرين من تاريخ مصادقة مجلس صيانة الدستور على القانون، وهي الخطوة التي أنجزها مجلس صيانة الدستور فوراً.
وفي موازاة موقف عباسي والبرلمان ومجلس صيانة الدستور، أطل د.جواد لاريجاني رئيس مركز الأبحاث والعلوم المعرفية الإيرانية (صديق فخري زاده)، للقول إن ردنا على اغتيال فخري زاده يجب أن يكون مدروساً ويتسم بالدهاء، ولكن لدينا رد مدروس وجاهز وهو بيد رئيس جمهوريتنا العزيز وهو أن يتكرم علينا في الشهور الأخيرة المتبقية على وجوده في السلطة ويكسر القيود والسلاسل التي كبلت أيادي شبابنا في السنوات الثماني الماضية باسم الإتفاق النووي. وختم بالقول “بهذا سوف يشعر نتانياهو بالندم وفي الوقت ذاته سوف يخرج عشرة علماء مقابل كل قطرة دماء أسيلت من فخري زاده وشهرياري وشهداء إيران النووين وهذا سيكون من أكثر الردود التي تتسم بالدهاء ويمكن للرئيس الإيراني أن يتبناها”.
هل ينتهي الأمر عند هذا الحد؟
بالتأكيد لا. فالسلطات الإيرانية وخاصة الذين ينتمون للتيار المحافظ ممن يعتقدون بأن إيران أصلاً “تعرضت للخسارة في الإتفاق النووي”، سوف يطالبون بتجاوز الإتفاق النووي، وفي اليوم التالي “سوف يتحدثون عن الصواريخ متوسطة المدى والصواريخ البالستية الاسرائيلية التي يمكن أن توجه نحو إيران في أي وقت تقرر فيه تل أبيب ذلك، وهؤلاء يعتقدون بأن اسرائيل في حال خسارتها أية حرب كلاسيكية لن تتردد في استخدام أسلحتها النووية ضد عدوها، بهذا الإستدلال يمكن للمحافظين الحصول على دعم الشعب الإيراني”، يقول أحد النواب المحافظين.
إذا انتشرت هذه الأفكار في الأوساط السياسية والإعلامية والعقائدية الإيرانية سوف يتم طرحها في المرحلة الثانية على شكل مسألة شرعية وإذا صادق عقلاء القوم على هذه الفكرة بوصفها حجر زاوية إستراتيجية إيران العسكرية “عندها سوف يتم إلغاء الفتوى التي تحرّم صناعة الاسلحة النووية وبعد فترة ليست بطويلة يجب أن ننتظر هل ستقدم إيران على إختبار أول قنبلة نووية لها في وسط صحراء لوت وسط إيران”؟
أوروبا.. وتضييع الفرصة
بالنسبة للفريقين الإصلاحي والمحافظ في إيران، “يجب أن يدرك الغرب بأن الضغوط الظالمة التي تتعرض لها طهران لن تدفع إيران وحدها إلى المضي في طريق التسلح النووي بل سوف نشهد سباقاً في مجال التسلح النووي وأسلحة الدمار الشامل في المنطقة العربية والإسلامية برمتها”، يضيف أحد هؤلاء النواب “بعبارة أخرى، يجب أن نقول بأن السياسة التي تتبناها أميركا والدول الغربية ستدفع إيران نحو الإسراع في امتلاك أسلحة نووية، ولذلك نعتقد أنه من صالح الغرب بشكل عام ومن صالح أميركا وفرنسا وإنجلترا وألمانيا بشكل خاص الإلتزام بالإتفاق النووي كما كان عليه في العام 2015، الأمر الذي من شأنه تمهيد الطريق أمام عودة إيران للإلتزام بكافة تعهداتها النووية وإلا فإن الدول الأوروبية مطالبة بأن تستعد للتعامل مع قنابل نووية في تركيا أو السعودية أو مصر في سياق سباق تسلح نووي في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا”.
لا بد من إستدراك أخير قد يبدو حشواً عند البعض، لكنه يحمل في طياته الكثير من الدلالات: “لو كان المنفذون يدركون تلك الإجراءات التي سوف تتبناها طهران لما أقدموا على عملية الإغتيال هذه التي تعتبر جريمة وفق جميع المقاييس والأعراف الدولية”، يقول أحد المسؤولين في طهران.