تركيا وإيران.. تصغير التباينات وتكبير التقاطعات
أدّى انتصار الثّورة الإسلاميّة في إيران عام 1979 إلى تغيّر المشهد العام في المنطقتين العربيّة والإسلاميّة. قبلها، شكّل الإتحاد السوفياتي الرافد الأساس لقوى المواجهة والإعتراض على سياسات الولايات المتحدة الأميركيّة وحلفائها في المنطقة، وهو سياق أعقب الحرب العالمية الثانية وإستمر حتى إنهيار الإتحاد السوفياتي قبل ثلاثة عقود من الزمن.
غير أنّ إنهيار ما كان يسمى “المعسكر الشرقي”، وبدل أن يمنح الولايات المتحدة تفوقًا مطلقًا بالفعل حتى الأزمة المالية العالمية في العام 2008، سمح بتقدم أدوار لاعبين إقليميين أبرزهم الجمهورية الإسلاميّة في إيران، التي رفعت شعار العداء لـ”الإستكبار العالمي” منذ تأسيسها.
هذا المدّ الخمينيّ الكبير، استطاعت المملكة العربية السعودية الحد من تأثيره، بتوجيه ودعم أميركيّين، وظهرت أبرز تجليّاته في معركتين اثنتين، أولاهما تحرير أفغانستان من الإحتلال السوفياتي، فأصبحت كابول، بدل القدس، قبلة “السنيّة الجهاديّة” بقيادة وهابيّة سعودية، وثّانيتهما من خلال “القادسيّة” معركة “العرب ضدّ الفرس”، التي شنّها الرئيس الراحل صدّام حسين ضدّ الجمهوريّة الإسلاميّة الفتيّة، ودعمتها السعوديّة بكلّ ثقلها منذ إندلاع شرارتها الأولى وحتى إنتهائها.
طوال الفترة الممتدة منذ قيام الجمهوريّة الإسلاميّة، ونجاحها في تمدد مشروعها المناهض للغرب، من لبنان إلى فلسطين مروراً بالعراق وسوريا وصولا إلى اليمن، شكّل الغطاء أو الشريك السّني معضلةً حقيقيّة وحاجة ملحّة لهذا المشروع. فبعد أفول محوريّة مصر جمال عبد الناصر في مطلع سبعينيات القرن الماضي، تقدم دور المملكة العربيّة السّعوديّة، وذلك استنادا إلى فائض البترودولار الّذي مكّنها من اختراق المثقفين والأحزاب والمؤسّسات الدينيّة والتعليميّة والإعلام والفن وغير ذلك، لتُصبح المملكة بمثابة السدّ المنيع أمام سعي الثّورة الإسلاميّة إلى التمدد في المحيط العربي والإسلامي.
توزّع القوى في المنطقة
تضم المنطقة ثلاث قوى رئيسية تمتلك رؤاها الخاصة ومشاريعها: الولايات المتحدة الأميركية و”حلفاؤها”، الجمهورية الإسلاميّة في إيران والجمهوريّة التركيّة (عدا إسرائيل). فإيران وتركيا تمتلكان بالأصالة من القابليات والمقومات ما يمنحهما القدرة على صناعة خريطة والتأثير فيها، وذلك أنّ كلا الدولتين هما دولتان محوريتـان جيواسـتراتيجيتان مهمتان بصورة رئيسية، حسب وصف المفكر الأميركي زبيغنيو بريجينسكي، أو ينطبق عليهما توصيف “الدولة ـ المرتكز”، حسب وصف الكاتب العربي الكبير الراحل محمد حسنين هيكل.
تشكل الولايات المتحدة الأميركيّة اللاعب الأقوى والأبرز في غرب آسيا، متكئة على أعمدة عدّة، يأتي في مقدمها قوتها العسكرية المتفوقة؛ الكيان الإسرائيلي؛ و”حلفاء” إنخرطوا في مشروعها.
ثمّة لاعب آخر هو إيران بمشروعها المناهض للولايات المتحدة والساعي للحد من نفوذها في الشرق الأوسط. وبرغم التفوق الواضح للأميركيين، إلّا أنّ إيران استطاعت حياكة عناصر قوّة عملت على مراكمتها بصبر وحرفيّة على مدى عقود أربعة. كما أنّها استفادت وبعمليّة تبادلية من عودة روسيا إلى السّاحة العالمية، ومن ثم بروز الصين كدولة منافسة بشكل جاد للولايات المتحدة.
أمّا القوّة الثالثة فهي تركيا. تركيا التي خلعت عنها ثوب أتاتورك وأعلنت الطلاق مع رؤيته للسياسة الخارجية والأسس التي وضعها، وأولها الإنفصال عن العالم العربي والإسلامي، لتعود بزخمٍ وتنخرط في محيطها، وتصبح واحدة من القوى الفاعلة والمؤثرة فيه سياسيا وعسكريا.
أمام التنافر الأميركي ـ الإيراني، تقف تركيا في دائرة انتهاز الفرص، مدركة وزنها السياسي والعسكري والإقتصادي، والأهم الإسلامي. لذلك باتت تركيا “أكثر انخراطاً في المشروع الإقليمي الصيني”، حتى أن مجلة “فورين بوليسي” الأميركية وصفت تركيا مؤخراً بأنها “باتت تابعةً للصين”، وهذا الأمر ليس بحديث العهد. ففي العام 2015، أعلن حلف “الناتو” عن سحب منظومات “باتريوت” من تركيا بالتزامن مع بدء العمليات العسكرية الروسية في سوريا، وجاء ذلك على خلفية المفاوضات التي كانت تخوضها أنقرة مع الصين لشراء منظومات دفاع جوي بعيدة المدى. اضطرت تركيا للتخلي عن تلك الصفقة لكي تخفف من وطأة التوتر مع “الناتو” وتضمن بقاء منظومات “الباتريوت” الأطلسية على الأراضي التركية.
إيران وتركيا: إطلالة سريعة
تتداخل العلاقات الإيرانية التركيّة بشكلٍ كثيف وعميق، فقد رسمتا من خلال السلطنة العثمانيّة والدّولة الصّفويّة الخريطة السياسيّة في المنطقة لعدّة قرون، وخاضتا حروبًا دمويّة انتهت في العام 1639 ميلادية بتوقيع “إتفاقيّة قصر شيرين” التي صاغت العلاقة بين البلدين، ووضعتها في إطار السّلام الحذر، ومنذ ذلك اليوم، لم يشهد البلدان أي حرب مباشرة بينهما.
مثّل سقوط السلطنة العثمانية وقيام الجمهوريّة التركية عام 1923 لحظة افتراقٍ غير منطقيّة لتركيا عن الشّرق. وظلّت برغم المحاولات القليلة والمترددة، بعيدةً عن ساحة التأثير والفعل في محيطها العربي، إلى حين وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في العام 2002، الذي حرّر السياسة الخارجيّة من العباءة الأتاتوركيّة، ووسّع مروحة الخيارات والتوجهات.
أحدثت “الثورة الخمينية” المنتصرة عام 1979 ارتدادت قويّة في محيطها، فأثارت في البداية هواجس تركيا العلمانيّة من إمكانيّة تمدّد الإسلام السياسي نحوها، لكنّ اشتعال الحرب العراقيّة الإيرانيّة بما شكل من إستنزاف للثّورة الإسلاميّة، جعل تركيا الشريان الاقتصادي الرئيسي لإيران طوال سنوات الحرب. عملياً، كان هناك نوع من التعايش البراغماتي بين الطرفين. وعلى سبيل المثال لا الحصر، عندما بدأ العراق بناء أنبوب نفط عبر السعودية احتجت إيران وهددت بضرب الأنبوب. وقد تولت سوريا نقل الرسائل بين السعودية وإيران ومن ضمن تلك الرسائل تساؤل سعودي عن سبب احتجاج إيران على نقل النفط العراقي عبر السعودية وعدم الاعتراض على نقله عبر تركيا؟!
كان الرّاحل نجم الدين أربكان عرّاب الإسلام السياسي والتوجّه شرقًا في تركيا الجديدة، وقد تجلّى ذلك من خلال قيامه بأوّل زيارة خارجيّة له لطهران عام 1996، بالتزامن مع صدور قانون “ILSA” المعروف بـ”داماتو” نسبة للسيناتور الأميركي اليميني المتشدّد، الّذي إستهدف محاصرة قطاع الطّاقة في إيران، فوقّع إتفاقيّةً لتوصيل الغاز الإيراني إلى تركيا لمدّة خمسة وعشرين عامًا بقيمة ثلاثة وعشرين مليار دولار، ثم عمل على إنشاء مجموعة الثماني الإسلامية، كساحة للتعاون الإقتصادي الإسلامي. هذا الخيار الإسلامي الجاد في السّياسة الخارجيّة لأربكان، كان الخط الأحمر الذي جعل موقف واشنطن المُشجّع لنموذج إسلامي معتدل في تركيا، كما يقول الباحث الدكتور محمد نور الدين، يتحوّل ويصل إلى الإفتراق والتّخلي عن دعمه لأربكان، وصولًا إلى الضغط لإخراجه وإسقاطه.
مع وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في تركيا، تميزت العلاقة بين الطرفين الإيراني والتركي بتفهّم المصالح الإقتصاديّة والأمنية والسياسية المتشابكة بين البلدين، وهي منظومة شكلت المحرّك الفعلي لتطوّر هذه العلاقات، حيث وصل مؤشّر التبادل التجاري الرسمي عام 2012 إلى حوالي 22 مليار دولار، ليعود وينخفض إلى 5.6 مليار دولار العام المنصرم بفعل عوامل عديدة أهمها العقوبات الأميركيّة، مع الحديث عن وجود سوقٍ موازية غير معلنة بينهما. مُضافًا إلى ذلك، مثّلت المخاوف المشتركة من القضيّة الكرديّة، وما تشكله من تهديد لأمن الدّولتين، عنصرًا في تعزيز هذه العلاقة.
أدّى ما يُسمّى بـ”الرّبيع العربيّ” إلى إبراز ما يمكن تسميته عمق العلاقة الإيرانية ـ التركية، وخصوصاً في ظل تماهي الإسلام السياسي في المنطقة بشقيه السني والشيعي. لا يتنافى ذلك وبعض المظاهر أو الظواهر السلبية، ولا سيما في الساحة السورية، بما تمثله من مصالح متضاربة لكل من طهران وأنقرة، غير أن فشل تمدّد المشروع الإخواني في المنطقة العربية، وفشل مشروع إسقاط النّظام في سوريا، جعلا تركيا تتواضع سياسياً وبالتالي تبحث عن قواسم أكبر مع إيران. زدْ على ذلك أن حضور روسيا المباشر في الساحة السورية منذ خريف العام 2015، ومن ثم مساهمة طهران وموسكو في كشف وإحباط الإنقلاب ضد رجب طيب أردوغان في العام 2016 (هنا يحكى عن دور وازن للجنرال الراحل قاسم سليماني)، أعادا الدفء إلى العلاقة التركية ـ الإيرانية.
تقاطع المصالح
عوامل عديدة وقواسم مشتركة تدفع للتقارب والتعاون بين تركيا وإيران. من الواضح أن ساحات التنافس والتنافر ليست قليلة، وأن سقف الخطاب، تحديدًا التركي، في العديد من القضايا مرتفع، كقضية أذربيجان مؤخّرًا، غير أنّ معيار القياس يبقى حجم المصالح والحاجات المتبادلة.
لا شكّ أن “تركيا الجديدة”، بعيداً عن الخطاب الشعبوي لرئيسها، وهو خطاب يحتاج إلى مقال خاص، ما زالت جزءًا من الحلف الأطلسي وحليفًا ثابتًا للولايات المتحدة، غير أنّها وللإنصاف أيضًا، استطاعت تنمية شخصيتها المستقلة وبلورة مشروعها انطلاقًا من فهمها لموازين القوى، ما يشكل مدخلًا للنفاذ إلى تعميق حضور تركيا في العمق السنيّ في غرب آسيا وشرقها، وصولاً إلى جنوب الجزيرة العربية والساحلين الشمالي (ليبيا) والشرقي (الصومال) للقرن الأفريقي.
في المقابل، تفرض موازين القوى والبراغماتية الواقعية التي تنتهجها كل من طهران وأنقرة، تقاربًا مُفيدًا للطرفين، يسمح بضبط التباينات والإستفادة القصوى من التقاطعات التي ما زالت كفتها راجحة، حتى الآن.
بدايةً من التحالف السعودي الإماراتي ـ الإسرائيلي الذي بات علنيًا، وهو بالمناسبة، لم يكن مدفوعًا بالإجبار من قبل إدارة ترامب، بل يجب فهم هذا التحالف المستجد الإعلان، في سياق حاجة الخليج لمواجهة كلٍ من طهران وأنقرة معًا، ومساعدة الكيان العبري في الإندماج بمحيطه العربيّ والإسلامي مقابل الحماية التي يمكن أن يوفرها لبعض الدول، بديلاً لحماية أميركية غير مضمونة.
ثانيًا، وفي السياق نفسه، مواجهة التهديد والتحريض المعنوي والمادي السعودي الإماراتي ضد البلدين، كمحاولة الإنقلاب في تركيا عام 2016 وإثارة وتحريض العرب والسنة في إيران ضد نظامي الإسلام السياسي السني والشيعي باستمرار.
ثالثًا، من خلال فهم مصالح كلا البلدين، خاصة مع إدراكهما لانسحاب القوة الأميركية، ومنعًا للتصادم بينهما، الذي ستكون له تبعات وخسائر لا يعوضها الإنتصار المنفرد لأي منهما.
رابعًا، المحافظة على المكتسبات والعمل على تعزيزها، والتي جاءت نتيجة التعاون بين البلدين، وفي مقدمتها حفظ النظامين، ثم منع تفتت العراق ونشوء دولة كردية، كذلك تفهم مصالحهما في كل من سوريا والعراق وعدم تهديدها، إضافة إلى العامل الإقتصادي، في ظلّ محاصرة الولايات المتحدة لإيران وتهديدها وزعزعتها المستمرة لاقتصاد تركيا.
إكتمال المشهد
برغم ميلان الكفّة لصالح تركيا بفعل تمددها السريع والنشط، واشتداد الحصار الأميركي الخانق على إيران، وملامستها النار والدّماء في بغداد على إثر اغتيال اللواء سليماني وقصف قاعدة عين الأسد، واحتدام التحريض الخليجي ضد “الخطر الشيعي” أو “الفارسي”، غير أنّ صعوبات الداخل التركي تجعل أردوغان راغباً بالإبتعاد قليلاً عن موسكو وطهران سعياً إلى إعادة تطبيع العلاقات الأميركية التركية، وخصوصاً مع مجيء جو بايدن، وهو ما سيدفع أنقرة إلى التودد أكثر لواشنطن وتل أبيب وتلقف المبادرات السعودية، وذلك على قاعدة أن المصالحة مع الولايات المتحدة هي الهدف الرئيس والضروري لتركيا في الفترة المقبلة، كما يقول الدكتور برهان الدين دوران مدير مركز SETA التركي للدراسات.
في المرحلة القصيرة وربما المتوسطة، وفي منطقة شديدة التعقيد وسريعة التغيرات، بحيث يصعب التنبؤ بمجريات الأحداث فيها، تبدو العلاقات التركية الإيرانية مرشّحةً أكثر للإستقرار والثّبات. فإيران تنظر لتركيا كدولة وازنة، وبرغم كلّ محاولات تغريبها وتغييرها، ما زالت تحتفظ بعمقها التاريخي (وهو بالمناسبة أقدم من السلطنة العثمانية). كما أنّ وجود علاقات سويّة ومتوازنة مع دولة “سنيّة” بحجم وإرث تركيا، يمكن التفاهم والتحاور والتعاون معها، يمنح الجمهورية الإسلامية مكسبًا “إسلاميًا” يستحيل التفريط به.