قلوب اللبنانيين القادمين من الخارج تبكي دماً على وطنهم المنكوب، حيث يشاهدون أينما ذهبوا في أحياء العاصمة هذا الدمار والخراب، ومعاناة أهلهم ومواطنيهم من إهمال الدولة لهم، وعدم شعور أهل الحكم بمسؤولياتهم تجاه الشعب المصاب بأسوأ كارثة انفجار هو الثالث من نوعه في العالم.
صدمة اللبنانيين القادمين من بلدان الانتشار أكبر من أن توصف ببضع كلمات، لأن نتائج الانهيارات الاجتماعية والمعيشية، وتلاشي الطبقة الوسطى وانحدارها إلى مستوى خط الفقر، لا تكفي الكلمات لوصف أوجاعها، فيما أهل السلطة والصولجان يتربعون على الكراسي، ويتماحكون على الحصص والمكاسب الحزبية والشخصية، غير عابئين بما وصل إليه البلد من عجز وإفلاس، ولا بما يوصمهم به العالم من فشل وفساد.
لم يعرف لبنان، في العهود السابقة، وفي مختلف الأزمات التي تعرّض لها، مثل هذه الأيام العجاف، التي تحوّلت فيها السلطة إلى أداة للانتقام من الناس الغلابى الذين فقدوا جنى أعمارهم، وافتقدوا لقمة عيشهم، وخسروا مكونات حياتهم اليومية، في انهيار النظام المصرفي، وسقوط النظام التربوي، واهتزاز النظام الصحي، وضياع النظام الاجتماعي، فضلاً عن انقلاب أسس وقواعد معيشتهم بسبب انهيار قيمة العملة الوطنية.
والكارثة الكبرى في خضم هذه الأزمات المتلاحقة، هي هذا العجز المتمادي من قبل أهل الحكم في التصدي للتداعيات الدراماتيكية المتسارعة، واتخاذ ما يلزم من تدابير سريعة لوقف هذا الانحدار المخيف، والحؤول دون وصوله إلى القعر الأسفل، حيث لا قيامة بعده للوطن والدولة والمؤسسات.
وقد تبدّى هذا العجز في أبشع صوره في الفشل بتشكيل حكومة اختصاصيين، رغم مرور خمسة أشهر على وقوع كارثة المرفأ، بسبب وضع المصالح الفئوية والأنانية قبل مصالح البلد والناس، إضافة إلى الفشل الذريع في التفاوض مع صندوق النقد الدولي، أو تحقيق أي اختراق في العزلة الدولية والعربية المفروضة على لبنان.
الكلام عن ارتباط الوضع اللبناني بالصراعات الإقليمية والدولية، وخاصة الكباش الأميركي – الإيراني، هو دليل آخر على قلة حيلة أهل الحكم في لبنان وفشلهم في تحييد بلدهم عن تداعيات مثل هذه الصراعات، وتغليب المصلحة اللبنانية على كل المصالح الإقليمية والدولية الأخرى، من خلال التوافق على موقف وطني واحد، مثل إعلان بعبدا، يحمي البلد من نيران الحروب المحتدمة في المنطقة، ويعزز وحدة النسيج اللبناني في مواجهة ارتدادات الزلزال الاقتصادي والمالي الذي ضرب لبنان ، وأطاح بمكاسب أكثر من سبعين سنة من المميزات التي تفرّد بها الوطن الصغير بين دول المنطقة منذ الخمسينيات من القرن الماضي.
الانتظار لما ستؤول إليه ملفات المنطقة المعقدة بعد وصول الرئيس الأميركي المنتخب جو بايدن إلى البيت الأبيض، ومعرفة توجهاته في التعاطي مع الجانب الإيراني، يعني إبقاء لبنان رهينة الصراعات أو التسويات بين الطرفين، حيث من المتوقع أن يتحمل بلد الأرز في الحالتين: احتدام الصراع أو الجنوح إلى تسوية ما، جزءاً كبيراً من أعباء المرحلة الجديدة، على غرار ما حصل في مرحلة الاتفاق النووي في عهد باراك أوباما.
فهل لبنان ما زال قادراً على دفع مثل هذه الأثمان الباهظة، والتي تفوق قدراته بأشواط؟
أما التكهنات الرائجة حول مصدر العراقيل التي تؤخر تأليف الحكومة، وهل رئيس الجمهورية وفريقه سببها، أم أن حزب الله يقف وراءها، فلا تقلل من المسؤولية السياسية والمعنوية والدستورية لرئيس الجمهورية والرئيس المكلف معاً. الأول لأنه يتمسك بمطالب يغلب عليها طابع الاستئثار والهيمنة على القرار الحكومي، والثاني لأنه مضى على تكليفه شهرين ونيف، ولم يُصارح الناس بالعقبات والأعذار التي حالت حتى الآن دون ولادة الحكومة، في بلد يعاني من الانهيارات إلى حد الاختناق، ويحتاج لوجود حكومة مقبولة من الداخل والخارج اليوم قبل الغد، لإطلاق ورشة الإصلاح وتحريك قطار الإنقاذ.
ولكن يبدو أن البلد يتهاوى تحت الأزمات المستفحلة، وشعبه يترنح تحت وطأة الفقر والعوز، والمسؤولون يعيشون احتفالات الأعياد، وكأنهم في كوكب بعيد عن هذا الوطن المعذب!
فمن يُنقذ لبنان من المصير المحتوم؟