فيلم “200 متر” يجسّد التشتت الفلسطيني جراء الجدار الإسرائيلي
يروي فيلم “200 متر” الذي عُرض خلال “أيام قرطاج السينمائية” هذا الأسبوع، المعاناة اليومية لعائلة فلسطينية تشتت أفرادها قسراً بسبب السياج الفاصل الذي بناه الاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية.
وإذا كانت فكرة الفيلم ولدت في 2013، فإنه يخرج الى الجمهور في زمن “اتفاقات التطبيع” التي يعتبرها الفلسطينيون “خيانة”.
ويدور الفيلم، وهو باكورة الأعمال السينمائية الطويلة للمخرج الفلسطيني الثلاثيني أمين نايفة، حول قصة زوجين من قريتين فلسطينيتين يفصل بينهما جدار إسرائيلي. ورغم أن المسافة بين القريتين لا تتخطى 200 متر، لكن وجود الجدار يفرض تحديا عليهما لا سيما حين يدخل ابنهما إلى المستشفى ويُكابد الأب من أجل الوصول إليه.
ولا يخفي نايفة أنه، بالإضافة الى العمل الفني، فهو يريد أيضا إرسال رسالة سياسية.
ويقول لوكالة فرانس برس على هامش عرض الفيلم في المهرجان أخيرا “الفن بشكل عام والسينما بشكل خاص هما سلاح المقاومة المتبقي الذي نعوّل عليه للدفاع عن القضية”.
وبدأت سلطات الاحتلال الإسرائيلي بناء ما تسميه “السياج الأمني” الذي يصفه الفلسطينيون بـ”جدار الفصل العنصري”، في أوج الانتفاضة الفلسطينية الثانية (2000-2005) “لأسباب أمنية”، وفق قولها، ومنع التسلل الى أراضيها.
ويبلغ طول “السياج الأمني” نحو 712 كيلومترا، وهو مكوّن من أسلاك شائكة وخنادق وأسلاك كهربائية وجدران من الإسمنت المسلح يبلغ ارتفاعها تسعة أمتار. ويقع 85 بالمئة منه في أراضي الضفة الغربية المحتلة. وهو يعزل 9,4 بالمئة من الأراضي الفلسطينية عن القدس وإسرائيل، بحسب الأمم المتحدة.
ويوضح نايفة أنه أراد من وراء الفيلم، “طرح الكثير من الأسئلة الحارقة”، مضيفاً “هل هذه حياة معقولة لشعب يعاني منذ أكثر من سبعة عقود؟ هل هذا الواقع يعكس شيئا إنسانيا في ظل الظروف العربية المؤسفة؟”.
ويتابع “بحثت عما هو مفقود في السينما الفلسطينية من تفاصيل يومية يمكن أن تحدث الفارق بعيداً عن الفلسفة السياسية وشرح تاريخ القضية الفلسطينية”.
ويعيش العديد من الفلسطينيين فعلاً المعاناة التي يحكيها الفيلم. وروى تقرير لوكالة فرانس برس في تموز/يوليو 2019 قصة طفل اضطر على مدى ثمانية أيام إلى السير على قدميه نحو ستة كيلومترات يوميا تحت أشعة الشمس الحارقة للوصول إلى مدرسته في بيت لحم، بعد إغلاق سلطات الاحتلال المدخل الوحيد المؤدي إلى منزله في قرية الولجة.
ويعرب المخرج الفلسطيني عن أمله في إيصال قصة “تعكس الواقع الفلسطيني بلا مبالغات وبروباغندا” ومن دون “الشعارات والصور النمطية ومشاهد العنف، إلى الدول العربية في إطار قطار التطبيع المحزن والمؤلم”.
ومنذ منتصف آب، أعلنت أربع دول عربية تطبيع علاقاتها مع إسرائيل برعاية أميركية، بدءاً بالإمارات ومن ثم البحرين والسودان وأخيراً المغرب.
ويبدأ الفيلم الذي يمتد على أكثر من ساعة ونصف الساعة بمشهد لخطاب الرئيس الأميركي دونالد ترامب خلال الإعلان عن خطة السلام الأميركية أو ( صفقة القرن).
وتنص الخطة على ضم إسرائيل أجزاء من الضفة الغربية التي تحتلها الدولة العبرية منذ 1967، بما فيها مستوطنات يهودية غير شرعية في نظر القانون الدولي. وقد رفضها الفلسطينيون بشدة واعتبروها منحازة لإسرائيل.
وتشكل شخصيتا الأب مصطفى الذي يجسدها الممثل الفلسطيني علي سليمان، والأم سلوى (الفلسطينية لينا زريق) محوراً تدور حوله باقي الشخصيات في الفيلم.
وتتابع كاميرا نايفة بدقة بطل الفيلم خلال تنقلاته اليومية الشاقة للذهاب الى العمل في الضفة الغربية حيث يجد نفسه مجبرا على المرور عبر نفق ضيق مكتظ بالمارة والامتثال للشرطة الإسرائيلية عند نقاط تفتيش عديدة تستوقفه.
لكن الامر يزداد سوءا حين ترفض شرطية السماح له بالعبور بحجة عدم حيازته ترخيصاً مسبقاً من سلطات الاحتلال، ما يدفعه الى المجازفة واللجوء إلى وسيلة نقل غير قانونية للوصول للمستشفى حيث يرقد ابنه الذي تعرض لحادث سير. واستغرقت الرحلة ساعات وتحولت المسافة من 200 متر الى 200 كيلومتر.
وفي إحدى اللقطات، يبرز نايفة سخط مصطفى حين يصرخ في وجه السائق المتراخي “أنا أولادي وزوجتي بعيدون عني فقط 200 متر وراء ذاك الجدار”.
وصُوّر الفيلم نهاية 2019 في 35 منطقة فلسطينية بينها جنين ورام الله وطولكرم.
وبين الشخصيات، شخصية رامي وهو شاب عاطل عن العمل شارك مصطفى الرحلة الطويلة بعد لقائهما صدفة، من ثم تعرّض لإصابة جراء سقوطه خلال محاولة تسلّق الجدار سعيا للانتقال إلى الجانب الإسرائيلي بحثا عن عمل.
ويقول الممثل الفلسطيني الشاب محمود فتحي طوافشه الذي يقف للمرة الأولى أمام الكاميرا ويلعب دور رامي “شخصية رامي كما بقية الشخصيات موجودة تقريبا في كل بيت فلسطيني الذي قسمه الجدار اللعين… الجميع يعاني”.
وأنتجت الفيلم مواطنته مي عوده التي منحتها مجلة “فراييتي” الأميركية المتخصصة في مجال الترفيه، أخيراً جائزتها السنوية لأفضل موهبة عربية في الشرق الأوسط.
وتبلغ ميزانية الفيلم الذي عُرض بداية في مهرجان البندقية السينمائي في أيلول، نصف مليون دولار.
وقد شارك الفيلم أيضا في تشرين الأول بمهرجان الجونة السينمائي في مصر حيث نال جوائز عدة.
ويعرض العمل حاليا في مصر، فيما ينطلق عرضه في تونس في السادس من كانون الثاني على أن يشاهده الجمهور لاحقا في صالات فرنسا وتركيا، وفق ما أفاد مخرج العمل لوكالة فرانس برس.
وشارك فيلم “200 متر” في “أيام قرطاج السينمائية” التي دأبت تونس على تنظيمها منذ 1966، وعُرض خلال دورتها “الاستثنائية” التي اختُتمت الأربعاء حوالى 120 فيلما من بلدان عربية وإفريقية.
وأعلن المنظمون بسبب الجائحة “إلغاء المسابقة الرسمية هذا العام” المكرسة عادة للمخرجين العرب والأفارقة وتضّم أفلاما روائية ووثائقية طويلة وقصيرة تتنافس للفوز بجائزة التانيت الذهبي.
ويقول نايفة “جائزتي هي أن يشاهد الجمهور هذا العمل”.
وسيمثل “200 متر” الأردن في سباق جوائز الأوسكار التي توزع في 25 نيسان 2021 في لوس أنجليس، وفق ما اعلن نايفة الذي يحمل أيضا الجنسية الأردنية.
ولقي العمل السينمائي، وهو امتداد للفيلم القصير “عبور” الذي أخرجه نايفة العام 2017، إعجابا بين الحاضرين الذين صفقوا له طويلا خلال عرضه في المهرجان.
وعلقت الطالبة التونسية نسرين العبيدي قائلة “هذا العمل يحتوي على كثير من المشاعر، إنه يقطع النفس، الأمور التي نعتبرها حقوقا طبيعية عادية، أصبحت عند الآخرين أمنيات”.
كذلك قال اللبناني نجا الأشقر وهو مدير ناد للسينما المستقلة، على هامش العرض إن الفيلم “اتسمّ بالسرد البسيط وقصته الإنسانية الصادقة للأسف يجهلها كثيرون”.
كما حصد العمل آراء إيجابية في الصحافة المحلية، بينها ما كتبته الناقدة التونسية أسماء الدريسي في صحيفة “لابراس” اليومية الصادرة بالفرنسية إذ رأت أن الفيلم “يشكل صفعة أخرى لهزّ الضمائر” في ظل موجة التطبيع الحالية.