بصدمة وألم بالغين، ودّعت بلدة الكحالة في قضاء عاليه بمحافظة جبل لبنان، ابنها جو أو (جوزف) بجاني، الذي قُتل في وضح نهار يوم الإثنين أمام منزله، بينما كان يهمّ بالمغادرة بسيارته، بمسدس كاتم للصوت على يدّ مجهولين، فرّوا تاركين الشاب البالغ من العمر 37 سنة، والأب لطفلتين، مضرجاً بدمائه. وأقيمت مراسم الوداع الأخير للمغدور في كنيسة البلدة بحضور أفراد عائلته وحشد كبير من الأهالي، الذين أدخلوا النعش الأبيض إلى الكنيسة على وقع التصفيق.
وانتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي فيديوهات تظهر والد الضحية الذي كان يتعالج من مرض السرطان وهو يبكي بحرقة على فراق ابنه، فيما بدت أرملته تحت هول الصدمة.
في الموازاة، وغداة الجريمة، أشارت معلومات صحافية إلى أن الأجهزة الأمنية تمكنت من تحديد موقع هاتف الراحل الذي كان الجناة سلبوه إياه بعد قتله، وقد سُحبت كاميرات المراقبة الموجودة على الطريق التي يُرجح أن يكون سلكها مرتكبو الجريمة. وكانت كاميرات المراقبة وثقت كيف فتح القاتل غير الملثّم الباب، وأطلق على الضحية ثلاث رصاصات خرجت من جسده إلى الزجاج المواجه له. أما مرافق القاتل فكان يرتدي خوذة دراجة نارية وحقيبة ظهر، وفتش عن هاتف بجاني وأخذه، ليهربا مُسرعين نحو الطريق العام عبر الحقول المجاورة.
الدليل المشترك
وأشارت مصادر أمنية إلى أن البحث عن المرتكبين مستمر، وبحسب المعلومات الأولية كان هناك أكثر من شخصين، فهناك المنفذ والمساعدون الذين أمّنوا الطريق وراقبوها، خصوصاً أن بلدية الكحالة كانت تسيّر دوريات وتنظم إجراءات مشددة مرتبطة بفيروس كورونا، مما يدل على التخطيط الواضح لتنفيذ هذه الجريمة. وأكدت المصادر ذاتها أن فرع المعلومات في قوى الأمن الداخلي يبذل غاية جهده للتوصل إلى خيوط الجريمة.
وأغلق عدد من أهالي منطقة الكحالة الطريق الدولي بين بيروت والبقاع تنديداً بالجريمة، في حين لم يخفِ أقرباء الضحية وأصدقاؤه شكوكهم حول دوافع المجرمين الذين أردوا جوزف، واعتبر بعضهم أن السبب هو توثيقه أدلة معينة حول انفجار مرفأ بيروت في 4 أغسطس (آب) الماضي، “فبكونه مصوراً معتمداً متطوعاً لدى الجيش اللبناني، فهو حُكماً يحمل تصريحاً بالتواجد المتكرر في المرفأ، ومن غير المستبعد أن يكون جمع في هاتفه أدلة كافية ومزعجة إلى حد اغتياله في عقر داره، وبكل وقاحة وأريحية”. وربط بعضهم مقتل بجاني بمقتل العقيد المتقاعد في الجمارك منير أبو رجيلي، الذي اُكتشف جثة هامدة في منزله بعدما ضرب بآلة حادة على رأسه أنهت حياته، وكذلك بمقتل العقيد المتقاعد في الجمارك جوزف سكاف الذي قتل أمام منزله أيضاً منذ ثلاث سنوات، مشددين على أن “الشهداء كثر، والرابط هو انفجار مرفأ بيروت، ومكان القتل واحد، وهو في بيوتهم”.
كذلك، أشارت مصادر أمنية إلى أنه بعد تعقب الاتصالات تم رصد هاتف المغدور في بلدة القماطية وهي قريبة نسبياً من موقع الجريمة، ومعلوم أن البلدة المذكورة تتبع سياسياً لـ “حزب الله”. وأضافت المعلومات أن الأمر قد يكون صدفة أو هناك مَن يريد الإيحاء بأن المجرمين يتحصنون في عقر دار “الحزب”.
قلعة أمنية
وتعددت الروايات في شأن الجريمة المروعة التي استهدفت بجاني وهو موظف في شركة اتصالات، ويعمل أيضاً في مجال التصوير الفوتوغرافي، لا سيما العسكري مع الجيش اللبناني، وعمل أخيراً مع المحققين الفرنسيين والأميركيين في المرفأ. ونظراً إلى حرفية تنفيذ الجريمة، سواء بالسلاح المستخدم أو الإعداد لها، الذي يدل على وجود تخطيط وتصميم مسبقَين، تم ربط الجريمة بانفجار مرفأ بيروت، والإشارة إلى أن الضحية كان التقط صوراً وصفت بـ “الحساسة” والخطيرة، من شأنها أن تسهم في كشف بعض خيوط المجزرة التي وقعت يوم الرابع من أغسطس.
واعتبر آخرون أن الجريمة أتت في لحظة سياسية دقيقة، وتهدف إلى إحداث فوضى أمنية في البلاد، علماً أن العملية نفذت في إحدى أبرز “القلاع” الأمنية في لبنان، كونها تقع على مقربة من وزارة الدفاع والكلية العسكرية والقصر الرئاسي، وهي منطقة أمنية بامتياز، وباستطاعة كاميرات المراقبة رصد معظم التحركات.
جريمة منظمة
واللافت في الموضوع هو أن معظم المواطنين ووسائل الإعلام تداولوا في المرحلة الأخيرة معلومات عن إمكان حدوث موجة جديدة من الاغتيالات، شبهها بعضهم بتلك التي طالت قيادات سياسية بعد اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري العام 2005. وكان لافتاً أيضاً تسريب معلومات أمنية تفيد بأن فرقة من “الموساد” دخلت إلى لبنان خلسة منذ مدة، عبر شاطئ “الجية” جنوب بيروت، الأمر الذي رأى بعضهم أن الهدف منه تهيئة الأجواء للقيام بأعمال أمنية، وتوجيه الاتهامات نحو إسرائيل، في حين أن قيادة الجيش اللبناني لم تصدر أي بيان تؤكد فيه صحة حدوث مثل هذا الاختراق الأمني.
ويعيد هذا الحادث الخطير إلى الأذهان كلام وتقرير المجلس الأعلى للدفاع، الذي كشف عن معلومات تشير إلى إمكان تنفيذ عمليات اغتيال، مما يطرح تساؤلات حول الجهود التي يفترض أن تبذل لاستباقها.
وذكّر مصدر أمني لبناني، بعملية مماثلة استهدفت المصرفي أنطوان داغر، الرئيس السابق لمكافحة غسل الأموال والامتثال في أحد المصارف اللبنانية، إضافة إلى الجريمة التي وقعت في بلدة قرطبا (قضاء جبيل، محافظة جبل لبنان) مطلع الشهر الحالي، وأودت بحياة العقيد المتقاعد في جهاز الجمارك منير أبو رجيلي، موضحاً ألا خيوط بعد في الجريمتين.
وأشار المصدر الأمني إلى أنه عادة تستطيع الأجهزة الأمنية بفعل قدراتها وخبرتها اكتشاف خيوط أكبر الجرائم في وقت قصير، لا سيما من خلال تتبع “داتا” الاتصالات، “لكن عدم توصلها إلى خيوط في جرائم الاغتيال الأخيرة يضعنا أمام خيارين، إما أن يكون المجرمون طوروا أداءهم وباتوا يتجاوزونها، وهذا يدل أيضاً على أن تلك الجرائم منظمة، وإما أن هناك اختراقات واسعة للأجهزة، وضغوطاً سياسية وتهديدات تمنع السير في التحقيقات”.
وفي سياق التحليلات يقول أحد الأمنيين إن عمل بجاني في شركة الاتصالات قد يكون هو الفرضية المتقدمة على عمله كمصور، حتى ولو عمل مع المحققين الفرنسيين والاميركيين، مشيراً إلى أن “اغتيال المصرفي أنطوان داغر، الرئيس السابق لمكافحة غسل الأموال والامتثال في أحد المصارف اللبنانية قد يكون نتيجة نقل معلومات مصرفية حساسة لجهات خارجية، في حين أن بجاني قد يكون يمتلك داتا اتصالات مهمة تكشف اتصالات خطيرة لجهات نافذة”، معتبراً أنه “وإن لم يكن يعمل في موقع حساس في شركة الاتصالات، انما البيئة والإمكانيات المتاحة قد تكون توفرت لديه بطريقة ما”.
السر في الهاتف
من جهته، اعتبر مختار البلدة عبدو أبي خليل، أن الاغتيال مرتبط بمعلومات يعرفها المجني عليه، وهي تفضح جهات نافذة. ويضيف أن “أهم ما في القضية هي المعلومات الموجودة على هاتفه، والتي كلّفته حياته. وما يؤكد أن ميليشيا قتلته هو أن القاتل استخدم كاتماً للصوت، ولا يمكن لأي شخص الحصول على هذا الكاتم، وممنوع أن يُباع حتى للأجهزة الأمنية، بل فقط عبر مهرّب أو في السوق السوداء”.
كذلك أشار رئيس بلدية الكحالة جان بجاني إلى أن الجريمة التي حصلت “وراءها قصة كبيرة، وهي بحسب طريقة تنفيذها تدل على ارتكابها من قبل مافيا خطيرة”، مشدداً على أن “جوزف بجاني من الشباب أصحاب السمعة الطيبة، ومهذب ولا مشكلات شخصية له مع أحد”. وناشد الأجهزة الأمنية والقضائية الإسراع في التحقيقات وتوقيف المرتكبين، وإنزال أشد العقوبات بهم.
والتقى رئيس بلدية الكحالة جان بجاني، وزير الداخلية والبلديات في حكومة تصريف الأعمال محمد فهمي، واطلع منه على الاتصالات التي أجراها منذ لحظة مقتل الشاب جو، مع المدير العام لقوى الأمن الداخلي اللواء عماد عثمان، الذي أكد العمل على الإسراع بالتحقيقات في الجريمة المروعة.
وشدد وزير الداخلية على متابعته الحثيثة للقضية حتى كشف المجرمين، مؤكداً أن جريمة الكحالة المنظمة “لن تمر”، وطمأن إلى أن “الوضع الأمني ليس ممتازاً لكنه جيد، وما زال ممسوكاً لغاية الآن، أما الخوف فهو من الوضع الاقتصادي”.
مقتل قبطان سفينة
ومن بين هذه الجرائم “الغامضة” بتوقيتها وعلاقتها بانفجار المرفأ، ما أشارت إليه مصادر صحافية حول وفاة “مشبوهة” لسائق يخوت في ميناء جونيه شمال بيروت، وذلك قبل يوم واحد من مقتل جوزف بجاني.
وبحسب المصادر فإن شخصاً يدعى (إ.ص) يبلغ من العمر 36 سنة، توفي بحادث “مشبوه” لا يختلف بطبيعته عن جريمة قتل العقيد أبو رجيلي.
ولفتت المصادر إلى “أن القبطان (إ.ص) كان يقود في يوم 4 أغسطس (آب) يختاً راسياً في عرض البحر قرب مرفأ بيروت، وربما كان يملك معطيات حول ما حصل هناك في تلك اللحظة”.