بين حكمة الصمت ووجوب الكلام يتوزع كثير من رجال الدين المسيحيين اليوم. فبعض هؤلاء اختار الصمت “لأن الشيء الذي لا يمكن التعبير عنه بالكلمات لا يمكن إدراكه إلا بالصمت”. فالمشهد اليوم اختلف كلياً عن البارحة، وقبل البارحة، وبات يستلزم من الكنيسة تعاطياً مختلفاً وكثيراً كثيراً من الصلوات “لأنه حين يشتد الوجع ليس هناك علاج فاعل كالصلاة”.
نقصد أحد رجال الدين بسؤالنا: هل تخشى سيادة المطران أن يهاجر الناس وتُصبح كنائسنا بلا مؤمنين؟ يصمت طويلاً ثم يجيب بعد تكرار السؤال: “نحن لا نعدّ بعضنا. نحن ما يهمنا هو قيمة حضورنا في هذه الارض وفي هذا الشرق. “كتار قلال”، لا يهم فرسل يسوع كانوا 12 واستطاعوا ايصال الشهادة الى كل الأمبراطورية الرومانية”.
يعود سيادته الى صمته مع كثير من العمل الميداني من أجل مساعدة من يحتاجون الى مساعدة، وكم يحتاج ناسنا اليوم، مسلمين ومسيحيين، إليها. لكن، دعونا نكرر السؤال على مطران جبل لبنان وطرابلس للسريان الأرثوذكس جورج صليبا: هل يمكن أن تفرغ كنائسنا من المسيحيين؟ يبدو أن سيادته ما زال مؤمناً بوقعِ الكلمات غير الرمادية بعد أن فقد كل شيء آخر قيمته فيقول: “إذا استمرّت هذه المنظومة السياسية قائمة فمصير المسيحيين الى الزوال والسواد والظلمة”. كلامٌ جريء وواضح ولكن، هل انضمّ سيادته الى السياسيين أنفسهم الذين يرمون كل مساوئ هذه الأرض على المنظومة وهم قطعة منها؟ يجيب: “مشكلة الساسة في لبنان، خصوصاً الموارنة منهم، أنهم فشلوا في المحافظة على العناصر التي ميّزت لبنان بالحضور المسيحي” ويستطرد: “لبنان بلا مسيحيين صحراء جرداء قاحلة فارغة. المسيحيون، بلا مفاضلة، هم من صنعوا لبنان ولبنان صُنع من أجل المسيحيين، لكن حكام الموارنة أساؤوا الأمانة. لبنان هو قبلة الشرق، ووجد من أجل أن يكون ملجأ وحاضناً لكل المسيحيين في هذه المنطقة، في حين أن المسلمين لديهم أكثر من عشرين دولة في هذا الشرق. المسيحيون لديهم 10452 كيلومتراً مربعاً ليس إلا. وهذه المساحة طالما كانت لهم الملجأ السند”.
يتحدث مطران السريان الأرثوذكس عن الحضور المسيحي هنا، على هذه الأرض، في هذا الشرق، بكثير من الحسم وبلا مواربة. ويقول: “لبنان هو وطن سرياني، ومعناه قلب الله، مرّ فيه وثنيون ومسلمون ومسيحيون ومرّ عليه الكثير من الظروف ولم يستطع الموارنة أن يحافظوا على ميثاق البطريرك الياس الحويك”.
هل نفهم من كلام سيادة المطران أن هجرة المسيحيين ستكون هذه المرة أشدّ من كل الهجرات التي سبقت؟ يجيب مستخدماً الكلمة الإنكليزية “melting pot” حيث أن المسيحيين في هذه الهجرة الجديدة “سيذوبون في المجتمعات الخارجية ولن يعودوا أبداً”، ويستطرد بالقول: “من قبل كانوا يحنّون الى الوطن ويعودون ويستثمرون وينتمون أما اليوم فالمسائل تغيرت، بعد العولمة والإبتعاد عن الدين، كثيرا”. وينهي: “نسأل صاحب العيد أن يُنوّر عقول زعماء المسيحيين أولاً والشركاء في الوطن ايضاً ليعرفوا أهمية المسيحية والوجود المسيحي في لبنان. وكل بيت ينقسم على ذاته يخرب”.
“أبشركم بفرح عظيم فاليوم ولد لكم المخلص”، فهل هذه البشرى- الرجاء ستُعيد الثقة بجدوى ووجوب البقاء على هذه الأرض؟ ليلة الثالث والعشرين- الرابع والعشرين من كانون الأول يتساوى الليل والنهار، والليلة، ليلة الرابع والعشرين- الخامس والعشرين، يبدأ النهار يُصبح أطول بثوان من الليل، ويصبح النور أطول وأقوى. وهذا يجعلنا نثق أكثر أنه بميلاد يسوع يبدأ تاريخ جديد. هي علامة خارجية لكن قيمتها المعنوية كبيرة. فيسوع هو نور العالم.
ما رأي الكاهن المسؤول عن توثيق عجائب القديس شربل في دير مار مارون عنايا الأب لويس مطر بحال المسيحيين اليوم؟ جواب الأب مطر حاسم: “يهم مار شربل أمر لبنان كثيراً ولن يتخلى عنه وهو الذي يُعرّف عن نفسه أمام الغرباء بقوله: أنا مار شربل لبنان جايي أشفيكم”. مار شربل، قديس من لبنان، عينه دائماً تبقى علينا فهل معنى هذا ان كنائسنا لن تفرغ من المصلين؟ يجيب الأب مطر: “ليس أمامنا اليوم إلا الصلاة”، ويستطرد: “لبنان مريض، والإنسان حين يعاني أبوه أو أمه من مرض يمكث الى جانبهما ويخدمهما بعينيه. والوطن أب، كيان، فلنخدمه ونساعد على خلاصه كي نتخطى الأزمة التي نعيشها ولا نسقط في براثن اليأس”.
لبنان وطن المسيحيين والمسلمين لكن، للوجود المسيحي هنا، أكثر من رسالة. واليوم، في عيد الميلاد، ينتظر كثيرون رجاء من السماء، من الله القادر على كل شيء، الذي انتظر منه البشر شخصاً قوياً فأعطاهم طفلاً صغيراً، انتظروا حاكماً قوياً فأعطاهم أخاً، انتظروا شخصاً غاضباً يبطش فأعطاهم رجلاً محباً. الله قال لهم إن المحبة هي التي تغلب دائماً.
الله لا يضمر شراً بأحد. الله رحمة وغفران وتسامح. لكن المسيحيين ينظرون في هذه الايام حولهم ويرون أن كل شيء بات أسود. يشعرون ان لبنان الذي يشبههم انتهى. فهل هم محقون؟ رئيس دير القديس باسيليوس للرهبانية الباسيلية الشويرية في الأشرفية الأب نقولا الرياشي يحسم الإجابة بثلاث كلمات: “من عنده يسوع لا يخاف”. هناك، في كنيسة الدير، قرر الأب الرياشي أن تكون مغارة العيد هذه السنة مشكلة من الحجارة المحطمة وشبابيك بيروت المشلعة والزجاج المكسور، ليقول إن يسوع سيأتي من قلب الدمار ليُعطي الفرح ويزرع الأمل. أراد أن يقول إن يسوع حاضر كان وسيبقى مدى الدهور في حياتنا اليومية. واننا لن نترك أرضنا “فدور المسيحي ان يبقى شاهدا للنور الذي سيبزغ حتماً من مزود المغارة الصغير الفقير”.
الكنيسة لن تفرغ من المسيحيين. فاطمئنوا. وهذا ليس شعراً ولا نثراً بل الحقيقة المطلقة التي تنطلق من كل التجارب عبر التاريخ. المسيحيون قد يشعرون لوهلة باليأس لكن يسوع المسيح، نور العالم، سيعيد إليهم الأمل والضوء من جديد. ويقول الأب الرياشي: “كنائسنا ستبقى مليئة بالمؤمنين، ودورها للنفوس، كما دور المستشفيات للأجساد، إعادة التئام الجروح والنفوس والأجساد والآمال”. ويستطرد قائلاً: “صحيح أن هناك هجرات مسيحية تتزايد، لكننا غير خائفين لأن من يؤمن لا يخاف. مكمن الخوف هو الشرّ والظلمة واللامسؤولية. نحن مسؤولون ونرى كثيراً من ناسنا متجذرين “مشلشين” بهذه الأرض كما الأرز”.
كلام رجال الدين المسيحيين يريح لكن، لكثرة الظلمة الطاغية، يُشكك كثيرون في مستقبل الحضور المسيحي في لبنان والشرق. والشباب المسيحي اليوم يُصغي الى أغان من نوع: “شو عملتلي بالبلد عميفضى شوي شوي”، عوض الإستمتاع بأغنيات من نوع “يا لبنان دخل ترابك”. الشباب المسيحي عينهم في اتجاه واحد، الى حيث يوجد أمن وأمان ومستقبل وحياة وعمل واحترام، ولمبة حمراء يقفون امامها وإشارة خضراء تفتح أمامهم الطريق الى كل مكان. هذه أحلام الشباب المسلم أيضاً، لكن المسيحي إذا هاجر اليوم قد يذوب كما قال المطران صليبا في العالم وينسى لبنان، وكلنا يعلم أن للمسيحيين رسالة في هذا الشرق. وهناك دراسات تتوقع أن عدد المسيحيين في كل أنحاء الشرق الأوسط، بمن فيهم أقباط مصر، لن يزيد عن ستة ملايين في سنة 2025. فهل يتخيل المسلم قبل المسيحي الشرق الأوسط ولبنان بدون المسيحيين؟
المسيحيون لا يخافون ما داموا مع يسوع، لكن، الخوف من أن يبقى “تمترس” من يصفون أنفسهم بقادة المسيحيين في لبنان، بدفع المسيحيين من حيث يدرون أو لا يدرون الى الهجرة. وعندها سندخل الى كنائسنا ولا نسمع إلا الصدى. يسوع المسيح يولد اليوم. وسنسمع صرخة الحياة. أصغوا إليها هذه المرة أكثر من أي مرة لأننا بحاجة اليوم كثيراً الى صوت السماء.