جورج شاهين-الجمهورية
تتعزز المخاوف يوماً بعد يوم على مصير التحقيق العدلي في جريمة المرفأ، على خلفية ما يُحكى عن مواجهة قضائية مخفية، تشبه الى حدٍ بعيد الكباش السياسي القائم فوق السطح، والخوف من وجود مواجهة أمنية تحته، إن ثبت انّ بعض الجرائم، كالتي ارتُكبت في الكحالة بعد قرطبا، مرتبطة بجريمة العصر. وعليه، ما الذي يقود الى هذه المعادلة غير السعيدة التي تثير القلق؟
على هامش سلسلة الملفات السياسية والحكومية المفتوحة على شتى الاحتمالات السلبية التي تتقدّم على ما عداها مما يمكن ان يكون ايجابياً، تراقب الاوساط السياسية بقلق ما يتعرّض له التحقيق العدلي في جريمة المرفأ من استهدافات متعددة المصادر، وسط الغموض الذي يلف جوانب عدة من الإجراءات التي باشر فيها قاضي التحقيق العدلي، ولا سيما منها تلك المتصلة باستدعاء كل من رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب والوزراء السابقين علي حسن خليل وغازي زعيتر ويوسف فنيانوس الى التحقيق بصفة «مدّعى عليهم»، وما تركته من ردّ فعل طائفي ومذهبي، قبل ان يكون نيابياً وسياسياً وحزبياً وقانونياً، بالإضافة الى ردّ الفعل الذي رافق طلب خليل وزعيتر تنحّي قاضي التحقيق العدلي.
وفي انتظار ان تنتهي محكمة التمييز الجزائية من مهمتها، بعد تلقّيها طلب النائبين خليل وزعيتر تنحية قاضي التحقيق العدلي فادي صوان عن القضية بداعي «الارتياب المشروع»، فإنّ المراجع القضائية والقانونية تتحدث عن كثير من المعطيات التي تمسّ قانونية وصوابية اللجوء الى هذه المحكمة، في مثل الحالة التي تُناقش اليوم، وصولاً الى اعتبارها من الأخطاء التي تبطل اهمية الخطوة وصولاً الى إسقاطها.
ووفق ما يعتقد مرجع قضائي بارز، كان على النائبين خليل وزعيتر تقديم طلب التنحية امام وزيرة العدل ماري كلود نجم، وليس امام هذه المحكمة، فهي الجهة الصالحة لمثل هذا الإجراء وإلّا يفقد صوابيته. ولفت الى انّه وقبل النقاش في مضمون الطلب، فإنّ لا بدّ من الإشارة، وفي حال اللجوء الى وزيرة العدل، فإنّ في امكانها ردّه. فليس هناك ما يُلزمها بالتجاوب مع هذا الطلب، فهي التي تمثل الحكومة صاحبة القرار في ما جرى من تكليف لقاضي التحقيق العدلي. فوفق مبدأ «موازاة الصيغ» فإنّ اي طلب بتنحية القاضي لا يمكن ان يبتّ به ايجاباً ما لم تُحترم الآلية نفسها التي اعتُمدت عند التعيين أو التكليف. مع الأخذ في الاعتبار المراجعة المسبقة امام مجلس القضاء الاعلى قبل صدور مرسوم تسمية قاضي التحقيق الخاص الذي يسمّى «عدلياً».
وعليه لا يمكن ان يكون هناك نقاش ذو اهمية ما لم يلتزم مقدّمو طلب التنحية لأي سبب كان، بما وجب اتخاذه من خطوات امام المرجع المختص من مختلف جوانبه. وذلك التزاماً بما جاء ذكره في عدد من المواد في متن قانوني المحاكمات المدنية واصول المحاكمات الجزائية، والتي تحدّد اصول المراجعة وطريقة تقديمها، كما بالنسبة الى الآلية الواجب اعتمادها لينال اصحاب الطلب مبتغاهم.
والى هذه المعطيات القضائية التي لا يرقى اليها اي شك، بفعل عدم تقدّم اي سلطة على سلطة وزيرة العدل مهما بلغ شأنها، وان كانت محكمة التمييز الجزائية التي تمّ اللجوء اليها، فليس في قدرتها كسر او تجاوز قرار له صفة حكومية، لأنّ ما تتمتع به وزيرة العدل من استنسابية لا يستطيع احد الطعن به، حتى ولو تمّت المراجعة امام مجلس شورى الدولة، لأنّ تسمية المحقق العدلي بمرسوم وقّعته وزيرة العدل بعد إحالة السلطة التنفيذية متمثلة بمجلس الوزراء مجتمعاً في 10 آب الماضي الى المجلس العدلي، وذلك احتراماً لمبدأ الفصل بين السلطات، وهو امر لا يمكن تجاوزه في السياسة او باللجوء الى وسائل تستند الى موازين قوى أخرى، لتعطيل جوانب اساسية من عمل القضاء، فكيف بالنسبة الى قضية بهذا الحجم.
وبالإضافة الى هذه العناصر التي لا يمكن اهمالها عند مقاربة هذا الامر، يعتبر المرجع القضائي ان ليس للنائبين خليل وزعيتر الصفة التي تسمح لهما بالمراجعة، سواء امام وزيرة العدل او محكمة التمييز الجزائية او اي مرجع آخر، فهما ما زالا نائبين يتمتعان بالحصانة النيابية، وقبل نزعها لا يتمتعان بالصفة التي ادّعيا بها عند المراجعة. وعليه، فإنّه لن يكون هناك اي ادعاء له اعتباراته القانونية قبل رفع الحصانة عنهما، وهو امر لم يتحقق حتى تاريخه.
وبعيداً من المناظرات القانونية والقضائية لا يمكن اهمال ما يعوق مهمة التحقيق العدلي في جريمة المرفأ من مخاوف امنية، فإلى ردات الفعل التي اعاقت مهمة قاضي التحقيق، فإنّ الانظار اتجهت الى جريمة الكحالة التي قُتل فيها المصور والموظف في احدى شبكات الخلوي جوزف بجاني، في عملية امنية وصفت بـ «الجريمة المنظمة»، بعد 19 يوماً من العثور على العقيد المتقاعد في الجمارك منير أبو رجيلي، الذي تولّى مسؤولية مكافحة التهريب في الجمارك، جثة في منزله الصيفي في قرطبا في ظروف غامضة. وهي جريمة تشبه الى حدٍ بعيد بما لفّها من غموض حتى اليوم، جريمة مقتل زميل له هو العقيد جوزف سكاف في منتصف آذار من العام 2017، والذي سبق له ان حذّر من خطورة هذه المواد المتفجرة. وان لم تُحسم التحقيقات بعد في اي من هذه الجرائم ومدى ارتباطها بالتحقيقات الجارية في انفجار المرفأ، سيبقى الأمر عالقاً والشك مشروعاً، في انتظار التحقيقات الجارية. سواء تلك الخاصة بالتثبت من دور لبجاني في توثيق بعض الصور والمعلومات المهمة بعد الجريمة، كما بالنسبة الى ما رافق هذه، بقاء المواد لسنوات في العنبر الرقم 12 ان ارتبط الامر بجريمة مقتل ابو رجيلي وسكاف.
على كل حال، هناك من يعتقد انّ النزاع السياسي مسموح به. فاللبنانيون اعتادوا على تسييس كل الملفات، سواء استحقت ذلك أم لا. ولكن الخطر الجدّي الذي يحوط بجريمة المرفأ، ان يكون هناك اشتباك قضائي في كواليس العدلية، والذي تنامى الهمس في شأنه في الايام الاخيرة. وان صحّ ذلك، فهو الخطر الجدّي الذي يحوط بالتحقيق، وستكون هناك الطامة الكبرى. فإن صحّ ذلك وثبت وجود مثل هذا الاشتباك القضائي نتيجة تدخّل سياسي او خلاف ذلك، من احتمال ان يكون بين اهل البيت الواحد، يواكب الاشتباكات الأخرى، فإنّ الامر سيزداد خطورة. فما لم يكن القضاء موحّداً وراء قاضي التحقيق العدلي، يمكن ان تكون العدالة ومعها الحقيقة في خطر. وكل ما يأمله المراقبون هو ان يكون الحديث عن هذا الإشتباك وهمياً، قبل ان تتعدّد المقالب والأفخاخ امام قاضي التحقيق، والتي قد تصيب من القضاء والملف مقتلاً.