كان عام 2020 حافلاً بالأحداث والتطورات، خاصة بسبب وباء «كوفيد-19»؛ توفى نحو 1.7 مليون شخص حول العالم بسببه، وخسر الملايين وظائفهم ولقمة عيشهم، ودخلت مفردات في لغتنا اليومية، مثل الجائحة والكمامات والتطعيم وغيرها، وأصبحت محور اهتمام غالبية الناس حول العالم. ندخل عام 2021 وما زال الطريق طويلاً قبل التعافي من هذه الأزمة الصحية والاقتصادية والاجتماعية.
لكنَّ هناك دولاً تمرُّ بأزمات ضخمة تقلل من أهمية تبعات الوباء، بسبب المشكلات اليومية التي تواجه شعوبها. في مقدمة هذه الدول العراق الذي من الصعب معرفة حقيقة مدى تفشي الوباء، أو رصد عدد الوفيات فيه من جراء «كوفيد-19»، بسبب شبه انهيار المنظومة الصحية في البلاد، رغم الجهود الجبارة للأطباء العراقيين.
استيقظ العراقيون صباح 1 يناير (كانون الثاني) لعام 2020 على وقع تداعيات الهجوم على السفارة الأميركية في بغداد في الليلة السابقة من قبل أحزاب وميليشيات موالية لإيران. وبعد يومين، جاء الرد الأميركي عبر صاروخ قضى على زعيم «فيلق القدس» قاسم سليماني، والرئيس الفعلي لـ«الحشد الشعبي» أبو مهدي المهندس. كان استهدافهما تذكيراً من إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب بأنها مستعدة لاتخاذ إجراءات حاسمة ضد من يهدد مصالحها مباشرة. وأعيدت الحسابات داخل العراق، إذ توقع بعضهم أن يتخذ الأميركيون إجراءات إضافية ضد الميليشيات، بينما زاد معارضو واشنطن من مطالبتهم بإخراج القوات الأميركية من البلاد، سعياً لتدارك الوضع. وتكلَّلت تلك المطالب بتصويت البرلمان على قرار يطالب بسحب القوات فعلياً، الأمر الذي يتماشى مع سياسة ترمب العامة التي تسعى لإعادة القوات الأميركية إلى البلاد.
ورغم اهتمام الشارع العراقي بهذه الأحداث، فإنه لم يكن يتوقع خيراً منها، إذ إن هذه الصراعات لا تهدف إلى حل مشكلات الشعب، أو تحقيق مطالبه التي أهمها العيش بسلام، والحصول على لقمة العيش بكرامة، وهما الأمران اللذان يمنعهما الفساد والعصابات المسلحة.
المظاهرات الشعبية المطالبة بالتغيير والإصلاح في العراق التي بدأت في أكتوبر (تشرين الأول) 2019 ما زالت مستمرة، وكل العوامل التي دفعت بالعراقيين إلى التظاهر والمطالبة بالتغيير ما زالت قائمة، رغم استقالة رئيس الوزراء عادل عبد المهدي في نوفمبر (تشرين الثاني) 2019. لم يتم الاتفاق على خلفه، مصطفى الكاظمي، حتى أبريل (نيسان) 2020 بسبب الصراعات حول المصالح الحزبية، لا الاختلاف على التوجه السياسي المطلوب لينهض البلد مجدداً.
وجاءت تسمية الكاظمي بعد مساعي الرئيس العراقي برهم صالح لاختيار شخصية جامعة لم تتسلَّم منصباً حكومياً سابقاً، ولا تأتي من حزب سياسي معين، تماشياً مع مطالب المتظاهرين الذين مات من بين صفوفهم أكثر من 700 شاب بحثاً عن مستقبل أفضل لبلادهم. كان هناك تفاؤل حذر ملحوظ بتنصيب الكاظمي الذي وصف بأنَّه وطني، غير طائفي، ساعٍ لتحسين الحياة المعيشية للعراقيين، حريص على صيانة سيادة الدولة. ولكن كان هناك من يخشى من مجيء الكاظمي وإحداث التغيير السياسي، لأن ذلك البرنامج الحكومي يستهدف الفساد والعصابات. فعمل هؤلاء، خاصة أتباع الميليشيات والخارجيين عن القانون، منذ اليوم الأول على إضعاف الحكومة.
مرَّت أسابيع والصواريخ تستهدف السفارة الأميركية والمنطقة الخضراء للضغط على الحكومة، بينما استمر الفساد، وتصاعدت الأزمة المالية العالمية، وبقت أسعار النفط منخفضة. فور وصوله لرئاسة الحكومة، تحدث الكاظمي وفريقه الحكومي عن الأزمة المالية التي تواجه البلاد، والإصلاحات الضرورية لمعالجتها. وأصبحت «الورقة البيضاء» التي قدمها وزير المالية علي علاوي تجسد الإصلاحات الضرورية لإنقاذ الاقتصاد العراقي؛ الإجراءات التي طرحها الوزير علاوي نظرياً سليمة وأساسية لنهوض الاقتصاد، وتتماشى مع مطالب المؤسسات المالية العالمية، لكن الأمر النظري شيء والواقع شيء آخر. فعلى سبيل المثال، تقليص إنفاق الدولة على رواتب الموظفين الحكوميين مهمة، ولكن فقط عندما تكون هناك بيئة لنهوض القطاع الخاص محمية من تهديدات العصابات والرشى. وعمليات تهريب النفط، والتلاعب بأموال الدولة من خلال الرشى وعدم دفع الجمارك للدولة، واستيراد المنتجات الإيرانية بأضعاف سعر السوق (خاصة الغاز الذي يحرقه العراق)… كلها مستمرة. وقد ارتفع معدل الفقر في هذا البلد الغني إلى 40 في المائة من سكانه.
واتخذت الحكومة قرارات عدة لسد العجز المالي لموازنة عام 2020 الذي تجاوز 65 مليار دولار، آخرها قرار تخفيض سعر صرف الدينار العراقي من 1190 ديناراً عراقياً في مقابل الدولار الأميركي إلى 1450 ديناراً. بين ليلة وضحاها، خسر الدينار العراقي نحو 23 في المائة من قيمته، والمتضرر الأول الفرد العراقي الذي يتعامل بعملة بلاده لا بالعملة الصعبة. حدثت بلبلة شديدة في الشارع العراقي، وارتفعت أسعار المواد الغذائية والسلع الأساسية بنسبة تصل إلى 50 في المائة. لا تلجأ الدول لتخفيض عملتها إلا بعد أن تستنزف كل الإجراءات الأخرى؛ لم يحدث ذلك في العراق، فتحمل الشعب العراقي مجدداً تبعات قرارات سياسية غير مسؤولة.
الكاظمي جاء للحكم بطموح كبير، ووعود بتغييرات لطالما انتظرها الشعب العراقي، من بينها التصدي للفساد والسلاح الخارج عن الدولة، ووقف التهريب عبر الحدود، والأهم من كل ذلك صيانة سيادة العراق. وعلى الرغم من نوايا الكاظمي، بعد أكثر من نصف سنة من تشكيل حكومته، لا يوجد مسار واضح حول كيفية تطبيق هذه الأهداف. ومن المتوقع خلال الأيام المقبلة أن تزيد الميليشيات الموالية لإيران من إطلاق الصواريخ على السفارة الأميركية، ومقار الحكومة العراقية، ضمن الحملة الإعلامية لها، والادعاء بأنها تأخذ بثأري سليماني والمهندس، تزامناً مع الذكرى الأولى لمقتلهما. وعلى الرغم من بيانات الاستنكار والاستهجان، ليس بيد رئيس الوزراء الكثير الذي يمكن أن يقوم به لمنع الصواريخ أو عمليات الاغتيال والاختطاف المستمرة في البلاد. وما زال قتلة الناشط العراقي هشام الهاشمي طلقاء.
شعبية الكاظمي داخل العراق تتراجع، ولكن للإنصاف لا يمكن لومه بمفرده، أو تحميله مسؤولية الدمار الذي تعيشه البلاد. وجاء قرار تخفيض سعر صرف الدينار ليدفع العراقيين للتساؤل عما إذا كانوا ينهون عام 2020 بوضع أسوأ من ما بدأوا به العام -ومن يتحمل مسؤولية ذلك؟
المصدر: الشرق الاوسط
الوسوم
العراق مصطفى الكاظمي
newsadmin
107 3 دقائق