إصابة ماكرون تزيد عوارض الانهيار اللبناني

 

إيلي القصيفي – اساس ميديا

 

ما إن أُصيب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بفيروس كورونا حتّى ارتفع سعر صرف الدولار في السوق السوداء في لبنان. تلك السوق التي باتت المؤشر الأساسي لمسار الأزمة السياسية في لبنان سلباً أو ايجاباً، إلى حدّ أنّ تجّار العملة، صغارهم وكبارهم، تحولّوا إلى محللين في السياسة المحلية والإقليمية والدولية، لأنّهم يعلمون أنّ تطوّراتها تتحكّم بسعر صرف العملة في بيروت.

والأكيد أنّ السفارة الفرنسية في بيروت سارعت إلى إبلاغ دوائر الخارجية الفرنسية أنّ سعر صرف الدولار ارتفع في لبنان فور إعلان إصابة الرئيس الفرنسي وبالتالي إرجاء زيارته إلى لبنان، التي كانت مقرّرة في 22 و23 كانون الأوّل. والخارجية بدورها استعجلت إبلاغ قصر الإليزيه بالأمر.

كيف تتأخّر وتقرير من هذا النوع يظهر تأثير رئيس فرنسا في بلد كان سابقاً مستعمرة فرنسية واعدة، وهو الآن بعد نحو 80 عاماً على استقلاله عن فرنسا، يواجه انهياراً اقتصادياً وسياسيّاً غير مسبوق في تاريخه.

وما يزيد في استعجال السفارة والخارجية هاتين أنّ مرض ماكرون لن يكون له أي تأثير سياسي يُذكر لا في فرنسا ولا خارجها ما عدا لبنان. وذلك على الرغم من النعي المتواصل للمبادرة الفرنسية لتشكيل حكومة “اختصاصيين” في بلاد الأرز.

هذا المشهد السوريالي والواقعي جداً في الوقت نفسه ينطوي على مفارقات كثيرة تؤكّد كلّها عمق المأزق اللبناني وتجذّره إلى حدّ بات يصعب معه رؤية بصيص أمل في آخر النفق الطويل الذي أُدخل فيه لبنان، في وقت تغيب السلطة السياسيّة عن تحمّل مسؤولياتها في وقف التدحرج السريع نحو الانهيار الدراماتيكي  بدلاً من تحذير اللبنانيين من “جهنّم” وتخويفهم به.

ولعلّ الطريقة الدراماتيكية للانهيار المالي والإقتصادي، فجأة ومن دون سابق إنذار من السلطة، إلّا لماماً ومن باب رفع العتب، يضاعف مسؤوليتها بالدرجة الأولى، ثمّ مسؤولية سائر الأحزاب والقوى. إذ كيف يغفل أو يتغاضى هؤلاء جميعاً عن انهيارٍ واقعٍ حتماً، وكأنّه كان على وشك الحصول في بلاد أخرى، بينما الصراع السياسي والمحاصصات على أنواعها مستمرّة وكأنّ شيئاً لم يكن. فأين مسؤولية السلطة تجاه الشعب؟ وأين مسؤولية الأحزاب تجاه محازبيها وناخبيها؟

لذلك فإنّ الفالج المالي والاقتصادي بتداعياته الكارثية يدفع إلى إعادة تعريف العمل السياسي في البلد ويطرح من جديد وظائف السلطة والأحزاب على طاولة البحث والتفكيك. إذ أنّ ما حصل هو بالدرجة الأولى دليل إلى اختلال العمل السياسي في لبنان اختلالاً فظيعاً، وإلى سقوط الأحزاب، كلّ الأحزاب، في دائرة الفشل الذريع.

لكن تبقى المفارقة الأولى أنّ الائتلاف الحاكم بفعل موازين القوى الحالية، أي “حزب الله” و”التيار الوطني الحر”، الذي يتحمّل المسؤولية الأولى عن الأزمة، هو اليوم من يصوّر نفسه بصورة من يحمل مفاتيح الحلّ في يديه. لكنّ هذا الإدّعاء ليس محض تهرّب من المسؤولية وحسب، بل هو ينمّ عن إرادة ورغبة في توسّل الأزمة لفرض وقائع سياسية واقتصادية واجتماعية جديدة في لبنان، على وقع الانهيار وانطلاقاً منه.

هذا ما يفسّر الإمعان في الفراغ الحكومي وقبله الفراغ الرئاسي أشهراً، لا بل سنوات، وكأنّ شيئاً لم يكن. فالهدف الأوّل لثنائي “حزب الله” – “التيار الوطني الحر” ليس الحكم لمجرّد الحكم، بل الحكم لتغيير قواعد اللعبة السياسية والدستورية. ولذلك فإنّ السلطة والفراغ سيّان عندهما، لأنّ كلاهما يهدفان، كلّ بحسب أولوياته وقدراته، إلى تكريس موازين القوى الجديدة في الواقعين الدستوري والسياسي. وإن عصت عليهم النصوص، فبالأعراف المبتدعة. 

لذلك لا غرابة في ألّا يستعجل “حزب الله” والعهد تشكيل الحكومة إلّا إذا أتت على صورة تؤكّد غلبتهما في اللعبة السياسية. وهذا أصلاً دأبهما ليس من الآن وإنّما منذ سنوات وتحديداً منذ 7 أيّار 2008، وما بدعة الثلث المعطّل التي ابتدعها اتفاق الدوحة سوى تأكيد لدأبهما. وليس صحيحاً بأيّ شكل من الأشكال أنَ الحكومة يمكن أن تبصر النور، حتّى وإن لم يحصل الائتلاف الحاكم بصورة من الصور على الثلث المعطّل وبالاتفاق بين أركانه.

ولعلّ مجريات عملية تشكيل الحكومة، منذ لحظة إعلان المبادرة الفرنسية، تؤكّد أنّ أولوية تشكيل الحكومة، ومهما كانت ملحّة لتدارك الانهيار ما أمكن ذلك، لا تتقدّم عند العهد و”حزب الله” على أولوية ولادة حكومة تؤكّد أرجحية نفوذهما في البلد. وإذا لم تكن حساباتهما لهذه الناحية واحدة فهي تتقاطع عند هذه النقطة بالتأكيد. فالعهد مهموم بالردّ على العقوبات الأميركية التي طالت النائب جبران باسيل وفي الوقت نفسه يسعى إلى رفعها. وأمّا الحزب فحساباته إقليمية متصلّة أساساً بالاستراتيجيات الإيرانية، وخصوصاً ما يتصلّ منها بالاتفاق النووي مع الإدارة الأميركية الجديدة ورفع العقوبات عن طهران.

لذلك فشلت المبادرة الفرنسية في نسختها الأولى أيّام الرئيس المكلّف مصطفى أديب. ولذلك هي متعثرّة الآن إلى حدّ أنّ فيروس كورونا يمكن أن يكون قد حفظ ماء وجه ماكرون لكي لا يأتي إلى بيروت ويغادرها كمن يخرج من المولد بلا حمًّص. خصوصاً أنّ إيران غير مستعدّة للتفريط بأيّ ورقة من أوراقها في المنطقة، ومنها الحكومة اللبنانية، قبل أن تقبض ثمنها من واشنطن. وهذا أمر يلّفه الغموض الشديد وسط ضبابية مسالك المفاوضات بين واشنطن وطهران ومواقيتها. في ظلّ دعوة الوكالة الذرية الى اتفاق جديد مع الأخيرة. وكذلك بعد صدور أصوات أوروبية تدعو إلى توسيع هذه المفاوضات لتشمل البرنامج الصاروخي لإيران وتوسّعها الإقليمي. وهما ملفان لم يغفلهما الرئيس جو بايدن في حديثه إلى الصحافي توماس فريدمان في “نيويورك تايمز”. بينما رفض الرئيس حسن روحاني البحث فيهما. هذا فضلاً عن الأسئلة الكثيرة عن كيفية تعامل بايدن مع تركة سلفه دونالد ترامب في المنطقة وقد وفّرت له أوراق قوّة يستحيل أن يفرّط بها.

فهل يمكن للبنان انتظار جلاء صورة الإتفاق النووي؟

حتماً لا… هو ظنٌّ متسرّع، أنّ تبصر الحكومة اللبنانية النور ما إن تطأ قدما بايدن عتبة البيض الأبيض.

كلّ ذلك يذكّرنا بالتأنيب شديد اللهجة الذي وجّهه السيّد حسن نصرالله لماكرون عقب خطابه إثر استقالة أديب. يومها قال نصرالله ما معناه إنّ لهجة ماكرون وعباراته تمسّ بالسيادة اللبنانية. لكن إذا سلّمنا جدلاً بكلام الأمين العام لـ”حزب الله”، فنسأل: ماذا فعل الحزب طيلة هذه الفترة لقطع الطريق أمام تدخّل الرئيس الفرنسي في الشؤون اللبنانية؟ هل دفع، بحكم نفوذه الوازن، باتجاه تشكيل الحكومة في أسرع وقت. لو فعل ذلك لما كان ارتفع سعر الصرف في لبنان لمجرّد إصابة ماكرون بكورونا، وهو ما دلّ على تأثير الأخير في الأوضاع اللبنانية على الرغم من مبادرته المتعثّرة. وهو تأثير لا يظهر نقاط قوة ماكرون في لبنان بل نقاط ضعف الحزب.

فإذا كانت غالبية اللبنانيين ترى في ماكرون بصيص أمل، على الرغم من ارتباك مبادرته، فهذا دليل إلى أنّهم لا يرون في الحزب، نقيضه هنا، الأمرَ نفسه. وذلك على الرغم من فائض قوّته ووعوده بمكافحة الفساد!

 

Exit mobile version