تضع السلطة الحاكمة في لبنان حالياً، الشعب اللبناني أمام وضعيّة صعبة وهيَ: إمّا الخضوع لِقمعها وفشلها وفسادها وعهرِها وفجورِها وبلطجيّتها، وإمّا مواجهة الحرب الأهلية التي ستندلع باسمه، أي ستُفلِت السلطة زعرانها وقبضاياتها “الجبناء” المأجورين، وفِرَقها الأمنية المُنتمين إلى جميع الطوائف والمذاهب واللاطوائف والعلمانيين والمُزايدين، ستُفلِتهم ليتقاتَلوا مع بعضهم البعض “باسم الشعب اللبناني”، باسم طوائفه وأحزابه ومذاهبه وعقائده وتيّاراته، ستُفلِتهم تحت شعاراتٍ مُتطرّفة وعصبياتٍ تكلّم عنها وجيه كوثراني، في كتابه الصادر عن دار “النهار” عام 2007 “بين فقه الإصلاح الشيعي وولاية الفقيه – الدولة والمواطن”، شارحاً هذه المعادلة كما يلي: “هناك محاولة واضحة من خلال إثارة النعرات الطائفية والمذهبية، للعودة إلى “الإجتماع العصباني” (التعبير لإبن خلدون)، بدل الإجتماع الوطني المدني”.
لقد أشبعت السلطة، التي من المفترض أن تكون حريصة على بثّ أجواء توطيد العلاقات الوطنية والمدنية، إعلامها الموجّه مُؤخّراً، بأجواء الفوضى القادمة والتقارير”المحضّرة في مكاتبها”، عن الحروب الداخلية المتوقّعة، وعن الدمّ والدمار والقتل والإغتيالات، وذلك كلّه بأسلوبٍ معهود تلجأ له الأنظمة الفاشلة لحظة تتجرّأ شعوبها على مواجهتها بفشلها وفسادها، ومحاكمتها ميدانياً وتعليقها المشانق الميدانية. فحكم الشعب اللبناني قد صدر ضدّ هذه السلطة، مُدعّماً بالكثير من الدلائل والملفّات الفاسدة، وبالآلاف من الشهداء والشهود على إجرامها، وبعشرات السنوات من المعاناة والعذابات المستمرّة.
الشعب أصدر حكمه، والسلطة الحاكمة المُحاكمة تدافع عن نفسها بمحاولة تفجير الأوضاع أمنياً، فقد أهابتها الوحدة المدنية للشعب اللبناني ضدّها، فحرّكت بوجه هذه الوحدة، أزلامها الرسميين والحزبيين، الطائفيين “الطائفية مُتأتّية من الطوائف المُسالمة وليس من العصبيات والتّطرف”، والعلمانيين “العلمانية مُتأتّية من العلم والفهم والإنفتاح وليس من الجهل والفساد والإنغلاق”، والتّقليديين “التقليدية متأتيّة من الوفاء للتاريخ وللتقاليد وليس من التّمسك بالأخطاء والفشل”، فباتوا يتسابقون إلى الشاشات والمناظرات لبثّ جوٍّ مُشابه لأجواء الحرب الأهلية والداخلية المشؤومة السابقة، ويحرّكون مأجورِيهم الإعلاميين “الإعلام وُجِد لنقل الصورة الحقيقية وليس لتسهيل المؤامرات على الوطن والمواطن”، المدسوسين في السلطة الرابعة، يُحرّكونهم لفبركة أخبار عسكرية وأمنية وإغتيالية ومؤامراتية، أصولية وخارجية، غير مُكترثين للمنطق السليم. فبالرغم من إنكشاف ألاعيبهم الإجرامية، بحصر مصادر بثّ هذه الأجواء بوسائلهم الإعلامية وأبواقهم المأجورة، فما يهمّهم فرض هذه الأجواء كأمرٍ واقع، وليس كإنعكاس لحقيقة الأجواء الوطنية.
معادلة السلطة الحاكمة حالياً في لبنان كالعادة، التّمثّل بالأنظمة التي تجرّ شعبها بالقوة للإصطفاف والتّجمهر خلف الزعيم ووراء الحزب الواحد، والعمل على قلب مفاهيم الفئات الحرّة في لبنان إلى مفاهيم التبعيّة، وإلغاء قيم الحريّات والإنسانية في لبنان لصالح اللّاقِيم واللاشرعية والقمعية.
الهروب من الحساب، هو السبب الجوهري للسلطة لدفع الأمور في لبنان إلى العصبيات، أكانت طائفية أو مذهبية أو مناطقية أو علمانية أو دفاعية عن الذات، فالعصبيات جميعها عصبيات، وجميعها تدميرية للوطن وللإنسان. ولذلك، فهيَ الحليفة الأساسية للسلطات القمعية والفاشلة، وأهمّ ركيزة لإفشالها وإسقاطها، تتحقّق بالوعي للحقيقة وبالإدراك للفكر، من خلال وضع الخلافات العميقة والفكرية والطائفية والعلمانية جانباً، والذهاب إلى التّخلّص من هؤلاء الأشخاص الذين أوصلتهم ظروف راهنة إلى مواقع المسؤولية “وهم غير أهلٍ للمسؤولية”، ليتحكّموا برِقابنا وبمستقبل أجيالنا، أشخاص مهما كانوا متقاربين ومتشاطرين ومتكارزميين ومتعلمانيين ومتعاظمين، وحزبيين وقبليّين، فهُم سيّئون ومُدمّرون ومجرمون وقاتلون، وفاقدون للضمير وللإنسانية، أشخاص يسعون للإستفادة من تقاتل الشعب، بعضه مع البعض الآخر، من أجل تثبيت سلطانهم عليه كلّه.
مواجهتهم يا سادة، أيها الشعب اللبناني، واجبٌ وطنيٌ تاريخيٌ، لا يكون إلاّ بنظرية وضعها هيغل، وتنصّ على التالي: “إنّ تاريخ العالم ليس شيئاً آخر سوى تقدّم الوعي بالحريّة”. هذه المعادلة التي ردّدها الكثير من المفكّرين والإستراتيجيين والعلميين في التاريخ، كانت محور فكر شارل مالك، والصفة التي أعطاها للبنانيين، معتبراً أنّ الجنسية اللبنانية مُستندة بالأساس على “الحرية والإنسان”.
أيها اللّبنانيون الحريصون على “اللبنان” الفكر والهوية والصفة، لن يُخلّصنا ويُنقذنا لا نظام جديد لن يحترموه، ولا تعديل علماني أو طائفي لن يُنفّذوه، ولا دستور جديد أو قوانين متطوّرة لن يلتزموا بها، ولا برامج إقتصادية ونظريات مستحدثة ومتطوّرة لن يفهموها، فمع أهمية كلّ هذه الثوابت للإدارة الراشدة، الذي يُخلّصنا الآن وينشلنا من الهوّة التي أسقطونا فيها، “التّقدّم بالحرية”، والتّخلّص من التّبعية لأعدائها “السلطة الحاكمة” وأفرقائها السيّئين الفاشلين، والسلام.