قبل زيارة ثالثة عتيدة للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في 22 الجاري، ننشر هذا الملخص عن العلاقات الوطيدة بين فرنسا ولبنان، بالتزامن مع مجلة الامن العام في عددها الصادر حديثا.
هبّت فرنسا في اتجاه لبنان اثر تفجير مرفأ بيروت في 4 اب الفائت، وطرح رئيسها ايمانويل ماكرون مبادرة سياسية واقتصادية انقاذية متكاملة، متابعا مسارا مستداما من العلاقات بين البلدين بدأ في القرن التاسع عشر ومر بحقبات متنوعة وحرجة في تاريخ لبنان الحديث.
على الرغم من صغر مساحة لبنان، طالما حرصت باريس على ديمومة العلاقة مع هذا البلد السريع الانفجار وذي التغيرات الزئبقية، وهي لا تزال تعمل على حماية لبنان الوطن الذي ساهمت في انشائه في العام 1920. وهذا ما برز قبل عامين من الانهيار الشامل في نيسان 2018 حين دعا الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون الى عقد مؤتمر “سيدر” الذي يتوخى تمويلا دوليا في مقابل اصلاحات بنيوية في الآلية الاقتصادية والمؤسساتية والادارية اللبنانية.
اذن، يستكمل الرئيس ماكرون مسارا تاريخيا لاسلافه: زيارة فرانسوا ميتران الى لبنان في العام 1983 اثر تفجيرات بيروت، زيارة جاك شيراك في العام 2005 الذي سارع الى لبنان اثر اغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري، علما بان شيراك دعا خلال ولايته الى عقد 3 مؤتمرات لدعم لبنان: باريس (1)، باريس (2) وباريس (3)، زيارة نيكولا ساركوزي الى بيروت بعد انتخابه، ولم يشذ عن زيارة لبنان ايضا فرانسوا هولاند.
لا يمكن اغفال مؤتمر سيل سان كلو الذي عقدته فرنسا في العام 2007 بغية اخراج الملف اللبناني من الجمود الخطر وتسهيل انجاز الاستحقاقات الدستورية عبر خلق مناخات مناسبة لها، منها تأليف حكومة وطنية وذلك اثر الفراغ الرئاسي الذي وقع بعد نهاية ولاية الرئيس اميل لحود، وذلك تحت اشراف وزير الخارجية الفرنسي انذاك برنار كوشنير.
يستكمل ماكرون اذن مسارا من العلاقات التاريخية، فضلا عن وجود مصلحة فرنسية واضحة تقضي بمواجهة المد التركي في شرق المتوسط الغني بثروات الغاز، خصوصا وان البحر الابيض المتوسط يعتبر المنطقة العازلة لاوروبا ولن تسمح فرنسا للاتراك بمد يدهم اليها.
توغل العلاقات بين فرنسا ولبنان في التاريخ، وتعود جذورها الى القرن التاسع عشر حين لم يكن لبنان بعد سوى مجموعة طوائف تتقاسمها الامبراطورية العثمانية، وواكبت عن كثب الاسباب البعيدة والعميقة للاضطرابات الطائفية التي وقعت بين بين العامين 1840 و 1860، كذلك نظام الحكم الجديد للجبل الذي اعقب زوال الامارة الشهابية وسمي نظام القائمقاميتين، وبعدها نظام المتصرفية.
في العام 1920 وبعد دعوات لبنانية تم تأسيس دولة “لبنان الكبير” برعاية فرنسا، وبدأ انتدابها المباشر منذ العام 1920، واعطي لبنان دستورا في العام 1926، هذا ما اوجد تيارات معارضة للسلطة الفرنسية بسبب تعزيز الحياة الحزبية والصراع على الحكم الى ان جاءت مطالبات لبنانية بالاستقلال الذي كان في العام 1943.
بعد انطلاق الشرارة الاولى للحرب اللبنانية في العام 1975، لم تضطلع فرنسا بدور مباشر بين الاطراف المتنازعين الا في بعض الوساطات. لكن اللافت انه وبحسب دراسة بعنوان “تقديم لبنان” صدرت العام 2018 ونشرها موقع “واي باك ميشن”، فقد “انتقلت فرنسا منذ بداية تسعينات القرن الفائت ولغاية العام 2004، من موقع “الامومة العاطفية” المعنوية مع المسيحيين الى التشاركية القائمة على البراغماتية وحتى “المنفعة الشخصية المادية” لرغبتها في توزيع الاسهم والحصص لكي تعود الى المشرق العربي من البوابة اللبنانية. لذا سلكت طريقا آخر غير الذي سلكته سابقا فتحولت من رعاية “الورقة المسيحية” الى الشأن الاقتصادي (…)”.
في الحرب الاهلية، لعبت فرنسا دور الداعم للبنان دوليا، وخصوصا في مجلس الامن. فهي دفعت الى انشاء قوة الامم المتحدة الموقتة في لبنان، وصوتت لصالح العديد من القرارات في الامم المتحدة مثل القرارات 425 و501 و508 و511 و594 و599. وفرنسا كانت عضوا في القوة المتعددة الجنسية في لبنان خلال عملية “ايبولاد 1” حيث تم ارسال القوات المسلحة الفرنسية والمظليين الى الاجزاء الساحلية من بيروت الغربية والميناء البحري لضمان السلام في تلك المناطق، وكلفت بين عامي 1982 و1984 بتدريب القوات المسلحة اللبنانية.
انسحب عمق العلاقات السياسية التاريخية بين لبنان وفرنسا على المستويات الديبلوماسية والثقافية والتربوية. بالنسبة الى الفرنسيين فان لبنان يقع في قلب مصالحهم في الشرق الاوسط. لذا تهرع فرنسا لملاقاته عند اي اضطراب يهدد استقراره. لعل الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون كان من اشد المعبرين عن هذه الخصوصية اللبنانية في هذه المرحلة الصعبة التي تشهد ايضا بدايات المئوية الثانية للبنان الكبير. لم يتردد في زيارة لبنان على جناح السرعة بعد انفجار مرفأ بيروت في 4 آب الفائت، فحضر في 6 منه ثم في الاول من ايلول، طارحا مبادرة فرنسية سياسية واقتصادية متكاملة لحل الازمة اللبنانية.
ينطلق ماكرون من قاعدة ثلاثية يعتمدها في السياسة الخارجية الفرنسية تجاه لبنان والعالم العربي بشكل عام: التمايز عن الولايات المتحدة الاميركية، وعدم مجاراة اسرائيل في كل القضايا، وطرح فرنسا كوسيط ملزم في الملف الفلسطيني ولكن ايضا في ملفات الشرق الاوسط قاطبة. لكن الجفاء الذي ساد العلاقات الفرنسية ـ الاميركية خصوصا والاوروبية ـ الاميركية عموما في عهد الرئيس المنتهية ولايته دونالد ترامب، انعكس عرقلة للمساعي الفرنسية في ملفات حيوية في الشرق الاوسط منها الملفين الايراني والفلسطيني. لكن في لبنان ايضا حيث لاقت مبادرة باريس الاخيرة عرقلة واضحة لغاية اليوم، لكن الفرنسيين لم يستسلموا في ايجاد حل للمعضلة اللبنانية. وقد وعد الرئيس الفرنسي بعقد مؤتمرين الاول للدول المانحة لمساعدة لبنان، والثاني لايجاد حل لانسداد الافق لدى النظام اللبناني شبيه بمؤتمر سيل سان كلو في العام 2007. لكن المؤتمر الاخير لا يزال قيد البحث.
لا يقتصر التأثير الفرنسي على الوساطات السياسية، بل يطاول التربية والثقافة. وهذا ما حدا بوزير الخارجية الفرنسي جان – ايف لودريان الى الاعلان عن حزمة مساعدات واسعة للمدارس الفرنسية في لبنان بعد انفجار المرفأ، كذلك عملت فرنسا على تقديمات استثنائية لـ3 الاف طالب لبناني يتعلمون في جامعاتها، علما انه يوجد 66 الف طالب لبناني اختاروا التعلم في فرنسا في العام 2020.
من الناحية الديبلوماسية، يقع لبنان في المرتبة 12 عالميا قياسا باهمية البعثات الفرنسية، يوجد اكثر من 150 شخصا يعملون في السفارة الفرنسية، وهو الضعف بمرتين عما لدى فرنسا في اليابان وفي ايران.
يجب عدم نسيان ان 95 في المئة من حفظة السلام الفرنسيين منتشرون في منطقة الشرق الاوسط، وخصوصا في قوات اليونيفيل التي تخدم في لبنان، وهذا يدل على اهمية المصلحة التي لدى فرنسا في هذا المجال.