دخل البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي على الأزمة الحكومة اللبنانية من بابها العريض، بعد الزيارة التي قام بها الرئيس المكلف تشكيل الحكومة سعد الحريري الى بكركي منذ يومين، ما استدعى تحركاً سريعاً نحو القصر الجمهوري، لحقه بعد ثلاث ساعات زيارة من رئيس تكتل التغيير والاصلاح النائب جبران باسيل الى بكركي. وبدا واضحا ان ثمة علاقة حيوية ومباشرة بين مجريات المكاشفة الطويلة والمسهبة والتفصيلية التي جرت بين الرئيس الحريري والبطريرك الراعي في بكركي واندفاع البطريرك البارحة للقاء الرئيس عون أولا، ومن ثم مبادرته الى دعوة النائب باسيل للقائه في بكركي، سعيا منه الى الدفع ما امكن لاستعجال اسقاط التعقيدات التي تحول دون ولادة سريعة للحكومة . والحال ان كلام الراعي في قصر بعبدا بعد لقاء الساعة ونصف الساعة بينه وبين الرئيس عون تضمن رسائل مهمة بدا واضحا ان الراعي تعمد من خلالها التحذير بان استمرار الوضع كما هو لم يعد ممكنا، ولن يستقيم كذلك من دون مزيد من التداعيات البالغة الخطورة. وابرز هذه الرسائل تمثل في تكراره مرات عدة وجوب استعجال تشكيل الحكومة استنادا الى تمسكه بالأصول الدستورية في التاليف وليس أي قناة أخرى. كما ان الرسالة الأخرى البارزة جاءت في معرض موقفه الواضح من عدم دستورية موضوع الثلث المعطل “الدخيل” ولو ان ذلك جاء في معرض نفيه تمسك رئيس الجمهورية بهذا الشرط الذي يدرك البطريرك كما الجميع انه كان ولا يزال احدى العقد الأساسية في طريق تأليف الحكومة. اما الرسالة الثالثة فاكتسبت دلالة خاصة لجهة ظهور اقتناع البطريرك ضمنا بان التركيبة الحكومية يجب ان تتطابق مع مواصفات حكومة الاختصاصيين غير السياسيين والحزبيين.
التشكيلة الحريرية
وتكشف المعطيات المتوافرة في هذا السياق ان موقف الراعي الذي بدا هنا اقرب ما يكون الى موقف الحريري من التشكيلة الحكومية جاء بعدما تبينت للبطريرك عدم صحة ما تردد عن تسمية الحريري للوزراء المسيحيين وحده وان الحريري اطلع الراعي تفصيليا على دقائق الأمور والتركيبة الكاملة بالاسماء والحقائب، وبدا للراعي ان الحريري صادق في توجهاته وانه استند الى المعطيات الجدية وليس الى أي شيء آخر.
الاّ ان معلومات “الأخبار” ذهبت أبعد من ذلك، لفتت المصادر الى أن الاجتماع الذي دام نحو ساعتين بين الراعي وباسيل وتخلّله غداء شهد، “نقاشاً معمّقاً” في الملف الحكومي وفي “ضرورة الحفاظ على الشراكة الوطنية”. أجاب باسيل، في اللقاء، على استفسارات الراعي، وردّ “نقطة نقطة” على ما حمله الرئيس المكلف إلى بكركي قبل يومين.
في ما يتعلق بعملية التأليف، أكّد رئيس التيار الوطني الحرّ “بالوقائع أن الحريري سمّى الوزراء المسيحيين في التشكيلة التي حملها إلى قصر بعبدا، بما يعاكس تأكيدات الأخير بأن الأسماء التي ضمّنها تشكيلته انتقاها من لائحة قدّمها إليه رئيس الجمهورية في وقت سابق”. وشدّد على أن عون “لم يسلّم الحريري أيّ اسم. وهو أتى على ذكر أسماء مؤهّلة للتوزير في معرض اللقاءات مع الرئيس المكلّف، فما كان من الأخير إلا أن اختار بعضها، معتبراً أن الرئيس هو من طرحها”. باسيل أشار إلى أن الأمر “لا يتعلق بالأسماء المطروحة، وبعضها قد يكون جيداً، إنما بمرجعية الدستور الذي تنص المادة 53 منه على أن رئيس الحكومة يشكّل الحكومة مع رئيس الجمهورية، لا أن يسمّي رئيس الحكومة التشكيلة ويحملها إلى رئيس الجمهورية للبصم”. ولفت أيضاً إلى أن “ما يجري حالياً هو محاولة إزالة صفة رئيس الدولة عن رئيس الجمهورية وتحويله إلى رئيس لجمهورية التيار فقط، عبر حصر الحديث معه بجزء من حصة المسيحيين بدل أن يكون له دوره المحوري، ورأيه في كل الأسماء من كل الطوائف، وفي التوزيع الوزاري، وشراكته الكاملة في التشكيل الحكومي التي لا تقتصر على حصة فحسب. وفي هذا ضرب لمنطق الشراكة ولموقع الرئاسة”. كما أن “هناك محاولة لضرب ما ثبّتناه سابقاً من أن لرئيس الجمهورية في الحكومة حصة لا علاقة لها بالحزب الذي يرأسه”. وهنا سأل باسيل الراعي: “سيدنا لقد تعبنا كثيراً بعد الطائف لنعيد تثبيت الشراكة، فهل تريدون أن نتنازل عن حقوق المسيحيين؟”، فأجابه الراعي فوراً: “أوعا”
المصادر نفسها أكدت أن الراعي”كان متفهّماً للوقائع التي قدّمها باسيل، ومتفاجئاً من أنها جاءت مغايرة لما كان الحريري أبلغه به، وهو طلب من باسيل أن يصارح الرأي العام بأن التيار لا يتمسّك بأي حقيبة أو بالمشاركة وأنه لم يطلب الثلث المعطل”.
ووفق المصادر، فإن “سؤالاً يشغل بال بكركي مفاده: إذا كان التيار والقوات خارج الحكومة التي يرجّح أن تبقى إلى نهاية العهد، بيد من سيكون الحكم في حال تعذّر انتخاب رئيس للجمهورية بعد انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون؟”. لذلك، بحسب المصادر، “جرى نقاش مستفيض في أهمية تثبيت المشاركة المسيحية الكاملة في الحكم، وعدم التفريط بما حصّله المسيحيون في السنوات العشر الأخيرة من مناصفة كاملة، بما يمنع العودة إلى ممارسة منقوصة عانوا منها سابقاً، من شأنها أن تطيح بالحقوق وتكرّس أعرافاً بذلوا جهوداً جبّارة للخروج منها”.
وانطلاقاً مما تقدم استغربت المصادر عبر “نداء الوطن” أن يبلغ باسيل في “مناورته” الحكومية حدّ “المزايدة مسيحياً على البطريرك الماروني ومحاولة حشره بشكل معيب في خانة تحصيل حقوق المسيحيين على قاعدة: نحن نعطّل تأليف الحكومة لأجلكم فإذا كانت بكركي تنازلت عن هذه الحقوق مستعدون للتنازل عن شروطنا”.
وليلاً، نُقل عن مصادر بكركي أن “الصيف والشتاء تحت سقف واحد غير مقبول في التأليف، ما يعني أنه لا يجوز طلب لوائح اسمية من بعض الكتل ولا نطلب ذلك من غيرهم”.
ومن هنا لا يمكن القول انه من المضمون ان تؤدي حركة البطريرك الى اختراق وشيك في التاليف ولو أحدثت خرقا في المناخ السياسي. اذ ان المعلومات المتوافرة عن موقف بعبدا بعد الزيارة لا توحي أيضاً بتغيير في الاشتراطات التي وضعتها. ومن هنا ذكرت المعلومات ان الرئيس عون كان عرض للبطريرك معطياته وشدد على ضرورة تأليف حكومة قادرة على الإصلاحات والعمل والسير في التدقيق الجنائي. وأفادت هذه المعطيات ان الراعي تمنى على عون استئناف التواصل بينه وبين الحريري وانه أي البطريرك حاضر لاي شيء يطلب منه وعندها اكد له رئيس الجمهورية الا مشكلة مع الرئيس الحريري ويمكن التواصل بينهما في أي لحظة.
وحسب معلومات “اللواء”، كانت زيارة البطريرك الى عون بهدف دعوته الى حضور قداس الميلاد الذي يُقام في الصرح البطريركي. وطرح امامه موضوع تشكيل الحكومة، عارضاّ ما سمعه من الرئيس سعد الحريري خلال زيارة الاخير الى الصرح امس الاول، كما إستمع من الرئيس عون الى تفاصيل اللقاءات التي عقدها مع الحريري منذ تكليفه وصولاً الى اللقاء الاخير بينهما والتشكيلة التي قدمها الحريري، والملاحظات التي أبداها على التشكيلة، والتي تتعلق بتوزيع بعض الحقائب على الطوائف، وانه لا زال ينتظر إجابات الحريري.
واوضحت مصادر المعلومات انه كان هناك توافق بين عون والراعي على اهمية استئناف اللقاءات بين عون والحريري لمعالجة الاشكالات القائمة،خاصةان عون ابلغ الراعي ان لا مشكلة شخصية مع الحريري والاتصال واللقاء واردان في اي لحظة.
واوضحت المصادر ان تشكيل الحكومة لا يجب ان يستغرق هذا الوقت، اذا اخذ الحريري بملاحظات رئيس الجمهورية الشريك الفعلي في تشكيلها، اوناقشه فيها، لذلك المطلوب مبادرة من الرئيس المكلف.
وبالتالي لا ترى المصادر المواكبة لـ”نداء الوطن” “بارقة حلّ أو أمل” في ظل إحكام باسيل سطوته على العهد ومصير البلد، لكنها أبقت على نافذة واحدة مفتوحة يمكن من خلالها أن ينفذ المولود الحكومي “إذا أراد حزب الله ذلك، عندها، وعندها فقط، ينخفض سقف الشروط في ميرنا الشالوحي وتصبح “حقوق المسيحيين” مؤمنة وتستعد دوائر بعبدا لتسطير مراسيم التأليف”.
ومن هذا المنطلق، تتقاطع المعلومات عند التأكيد على أنّ أفق التشكيل لا يزال مفتوحاً على إمكانية إحداث خرق ما في جدار التأزم باعتبار أنّ “قيادة حزب الله تستشعر خطر إطالة أمد الفراغ الحكومي أكثر فأكثر على المستوى الاجتماعي، ولذلك تعمل عبر أكثر من قناة، مباشرة وغير مباشرة، في سبيل الضغط لحلحلة العقد تمهيداً لتأليف حكومة تستطيع أن تؤمن ضخ جرعة أوكسيجين خارجي في الخزينة، بما يحول دون اندلاع “ثورة جياع” لن يعود بالمقدور إخمادها إلا بالحديد والنار”.
فرنسا لا تزال على الخط
وعلى الخط الفرنسي، أفادت المعلومات لـ”اللواء”، ان باريس على موقفها ومبادرتها ولن يتغير شيء مع مرض ماكرون، بل إنه مصمّم على زيارة لبنان فور تعافيه، لكن الاتصالات الفرنسية بالجانب اللبناني قائمة، خاصة ان الرئيس عون ابرق الى ماكرون مطمئناً الى صحته، ومتمنياً له الشفاء العاجل من وباء كورونا.
أكّدت مصادر مطلعة لـ”الأخبار” أن الفرنسيين تواصلوا عشية الزيارة الملغاة مع الرئيسين ميشال عون وسعد الحريري ورئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل، في محاولة لفكفكة العقد حول عدد الوزراء وتوزيع الحقائب. إذ يصرّ رئيس الجمهورية على أن ينال حقيبة الداخلية “لأن الحريري يريد أن يعيّن فيها مسيحياً من حصته، ويعتبر عون أنه أولى بتسمية الوزراء المسيحيي”. كما يرفض الحريري التنازل للرئيس عن وزارة العدل “بعد الممارسات القضائية لفريق عون في عدد من الملفات”. فيما تؤكّد مصادر أخرى أن إصرار الحريري على العدل سببه خشية من فتح ملفات المحاسبة في إدارات ومؤسسات يتولاها مقرّبون منه.