ربيع سياسيّ مستقلّ على أنقاض السقوط العظيم

أنطوان العويط-نداء الوطن

لم يراجع اللبنانيون في طريقهم نحو بناء دولةٍ جوهر عاميّة انطلياس. تجاهلوا لاحقاً معنى إنشاء لبنان الكبير. كما لم يعرفوا أن يحافظوا على قيمة الإستقلال الذي أنجزوه العام 1943، فتعاموا عن معادلة لا شرق ولا غرب، وتغاضوا عمّا توافقوا عليه يوماً في 11 حزيران 2012 على طاولةِ حوارٍ في القصر الجمهوريّ.

صُدِم اللبنانيون من تداخل عوامل كثيرة، داخلية وخارجية، لم تتمكّن السلطات من معالجتها ولا النأي بلبنان عن الصراعات الإقليمية والدولية، فوقعت البلاد في فخّ الشدّة المستشرية والجرح المفتوح.

شرب لبنان سمّ “اتّفاق القاهرة” العام 1969وتجرّعه حتّى الثمالة، ما أدّى إلى اندلاع حرب دامية في نيسان من العام 1975. ويوم تطلّع قسمٌ من اللبنانيين على وقوف أقرانهم إلى جانب المؤسّسة العسكرية الوطنية للحؤول دون الإنغماس في وحول الحرب، ووجِهوا بالرفض بقرار خارجيّ، حلّت الغصّة عينها لدى قسم آخر من اللبنانيين جرّاء غطاء دولي أحاط بالعدوان الإسرائيلي على الوطن في تمّوز من العام 2006.

وفي تسوية بغطاءٍ إقليمي ودولي كان مفترَضاً لها ضبط الوجود الفلسطيني ووقف الإقتتال بين اللبنانيين، دخل الجيش السوري لبنان في كانون الثاني من العام 1976، لتستمرّ الجمهورية في الإحتراق وليتحوّلَ قوّة احتلال في رأي كثيرين.

اغتيل رؤساء للجمهورية وللحكومة ووزراء ونواب وقادة أمنيون والعديد من أهل الرأي والفكر منذ العام 1977 حتى يومنا هذا. ونُفي وسُجن آخرون، وحدثت مجازر ووقعت حروب طاحنة ضدّ الجيش السوريّ وضدّ الإحتلال الإسرائيليّ. كما فشلت بعدها محاولات عدّة لانتخاب رئيس للجمهوريّة، ومُدّد تكراراً للمجلس النيابي، وشهدت عمليّة تشكيل الحكومات صعوبة فائقة أو تعطيلاً لعملها، فبات النظام الديموقراطيّ البرلمانيّ بدستوره وقوانينه ونظمه هجيناً مسخاً.

تيقّن الجميع أنّ التسوية ما فوق العادية التي تمّت في الطائف بغطاء عربي ودولي العام 1989 والتي باتت في صلب الدستور، لم يتمّ احترامها، فطبّقت بعض بنودها انتقائيّاً وبعض بنودها لا يزال ينتظر التطبيق.

رغم ذلك، لم تُقبِل المنظومة السياسيّة على أيّ مراجعة ذاتيّة، وعند كلّ مفصل إقليمي أو دولي، كانت الساحة اللبنانيّة جاهزة لتلقّي مفاعيل الاضطراب والعواصف من حولها، ولتنتشر موائد السمّ بخصوصية مدهشة، راسمة معادلات غير مألوفة، تماماً كما حدث مع تسوية “اتّفاق الدوحة” بعد رسالة عسكرية وجّهها “حزب الله” إلى بيروت والجبل العام 2007. تسوية سرعان ما ضُربت في صميم بنودها.

واليوم، وفي ظلّ النزاع الإيراني– العربي – الدولي المفتوح، نشهد العجب من الإنقلابات والأزمات، وقد أوقعنا التعويل على الخارج مراراً في خيبات كارثية، كما اختبرنا جميعاً حقيقة المصالح الإقليمية والدولية وأولويّاتها.

لم تُستنبط المخارج يوماً على البارد ولا محلّياً، ونادراً ما تمكّن القادة من وضع لبنان ومصلحته أوّلاً، فأصابت الأزمات المتلاحقة النسيج الوطني في الصميم وتهَدّدت كيانيّة لبنان. تجربة يتيمة سياسية مستقلّة مؤسّساتية للراحل الرئيس فؤاد شهاب من العام 1958 إلى العام 1964، استطاعت أن تخرج عن سياق هذه الجردة السوداوية، فتميّزت في حداثتها وانجازاتها منذ الإستقلال.

أمّا “حركة الوعي” التي تأسّست العام 1969، فشكّلت استثناء وظاهرة شبابية فريدة، ضمن إطار تنظيمي فكري فاعل استطاع أن يضاهي الأحزاب اللبنانية التقليدية مجتمعة. اخترقت “حركة الوعي” وجدان الجامعيين “برؤية تغييرية ثقافية، إنسانية، طليعية ومنفتحة، مأخوذة بهاجسي العدل والحرّية وبشغف المعرفة، وإعلاء شأن العقل النقدي، وبمحبّة عميقة للبنان، وبوقوف بالغ إلى جانب الفقراء والضعفاء، وبرفض غريزيّ مطلق للفساد والفاسدين، والظلم والظالمين، وللعمالة والمتعاملين”… فتحوّلت في السبعينات علامة فارقة في الحياة السياسية اللبنانية كردّة فعل على الليبرالية اليمينية من جهة، والماركسية من جهة أخرى، وللمفارقة، اعتبرت يساراً لدى اليمينيين، ويميناً بالنسبة إلى اليساريين.

شعرت أحزاب السلطة بخطر هذه الحركة وبعجزها عن احتوائها، وفوجئ رئيس الحكومة الراحل صائب سلام بقدرتها على التجييش وتسيير التظاهرات الهادرة التي لا تكلّ ولا تهدأ، قاصدة ساحة النجمة، وطريق المطار وشارع الحمراء وساحة الشهداء، معطّلة جلسات مجلس النوّاب، تماماً كما فعلت انتفاضة 17 تشرين 2019. ولطالما فاوض رئيس الحكومة الراحل رشيد الصلح قادتها، متسائلاً عمّن يقف وراء تحرّكاتها، فوجدها مستقلّة محلّية صافية، ومن هنا كانت تستمدّ قوّتها.

هل يُستعاد هذا الحلم مرّة جديدة؟!

صحيح انكفأت التحرّكات الشعبية في الشارع العام 2020 لأسباب كثيرة، لكنّ الثورة لم تخمد. فعلى غرار كافة حركات التحرّر في العالم كلّه، ها هو وقودها يعود يتجلّى لدى الشباب وتحديداً طلاّب الجامعات. وها هم المستقلّون يعودون بعد حوالى خمسين عاماً على إطاحة الحرب بـ”حركة الوعي”، ليجتمعوا في خندق واحد رافضين السلطة وأحزابها وبشكل أخفّ المعارضة منها، مقرّرين أن يقلبوا الطاولة على الجميع. فهل بإمكان المنظومة السياسية التنكّر للبحر الجارف من المستقلّين الذي سحب بساط السيطرة في الجامعات الخاصة منها، بداية من الجامعة اللبنانية – الأميركية مروراً بجامعة رفيق الحريري والجامعة الأميركية، وصولاً إلى جامعة القديس يوسف؟!

لقد بيّنت دراسة متخصّصة صدرت حديثاً أنّ 60% من اللبنانيّين لا يؤيّدون أي حزب أو سياسي. هي نتيجة تُعتَبر أولى من نوعها، إذ أنّ الولاء للأحزاب بلغ حوالى 75% عشيّة انتخابات العام 2018 النيابية. المستفتون اعتبروا أنّ لا خلاص للبنان، ولا مستقبل لهم، على يد المنظومة السياسية المرتهنة والفاسدة التي أفقرت شعبها، وهجّرته، وأخيراً قتلته في انفجار المرفأ الذي دمّر بيروت وأدّى إلى استشهاد المئات وجرح الآلاف من الأبرياء.

في ليل الصقيع الوطني المدلهمّ، وفي زمنٍ نفدت فيه الطرائد والفرائس، انقضّت الذئاب الجائعة تنهش بعضها البعض، في تزامنٍ مع تحوّلٍ يطرأ على الخريطة السياسية وفي القناعات وفي المزاج الشعبي العام.

أكثير أن يؤشّر الأمر إلى طور تكوّن لربيع طبقة سياسية جديدة مستقلّة تسير على خطى طلاّبها في الجامعات، على أنقاض طبقة سياسية مرتهنة تعيش مخاضها الأخير قبل السقوط العظيم؟!

Exit mobile version