نوال نصر-نداء الوطن
جبران باسيل أطلّ ليقول: أنتهي حين أدفن. فغرّد بيار بو عاصي بالقول: ننتهي سياسياً حين ننتهي شعبياً. مقولتان تستحقان أن نتوقف عندهما طارحين، في زمن انتهت فيه أمور كثيرة، السؤال: من هو السياسي الذي يستحق ان يعيش في حياته وبعد مماته؟ وهل يكفي ان يُسمى شخص ما سياسياً ليبقى قابعاً على صدور اللبنانيين وهو عاجز؟
ننطلق من كلام باسيل لنكتشف معنى “السياسي” في بلادنا في المجمل. فهل السياسة تغيرت في المفهوم العام بعد “تويتر”، وأصبح السياسي يخال أنه قادر على البقاء من خلال زقزقات يستخدمها في “عدته” السياسية متراساً فيجلس وراء الحاسوب وينادي: أنا هنا؟ أيكفي هذا وهو خالي الوفاض من أي حلول ليقال أنه سيصمد ويبقى ويستمر الى ساعة دفنه أو ربما الى أبد الآبدين؟
لا سياسيين في لبنان. هناك أشخاص يتحكّمون بالرقاب ليس إلا. دعونا نستعين بمقولة الإمام موسى الصدر: “السياسيون في لبنان من أجل الوصول الى كراسيهم مستعدون أن يتورطوا في دماء كثيرين”. فهل كلما زاد منسوب الدماء زادت فعالية السياسي؟
الباحث محمد شمس الدين سأل ذات يوم، قبل أعوام عدة، في دراسة أجرتها الدولية للمعلومات: من هو الزعيم السياسي الأول في لبنان؟ وهو اليوم يراقب حال السياسيين “الأوائل” والملحقين ويخرج باستنتاجات: “الزعامات السياسية هي التي تبقى بقدر قدرتها على “دغدغة” أو تحريك العصب الطائفي. جبران باسيل مثلاً يعيش في المرحلة الأخيرة لعهدٍ رئاسي سينتهي بعد أقل من عامين، ومن مصلحته شدّ العصب المسيحي لاقتناعه أن “زعيم الطائفة” هو من لا ينتهي، أما الأشخاص، كل الأشخاص الآخرين، ينتهون. لذلك رأيناه وسنراه بعد يلعب هذا الدور. فها هو بشير (الشيخ بشير الجميل) زعيم طائفي صامد في العقول والقلوب. وها هو السيد موسى الصدر زعيم طائفي. وها هو الرئيس الشهيد رفيق الحريري، بغض النظر عن زعامته الوطنية، اشتغل على تعزيز الموقع السني. فهذه الزعامات لا تنتهي حتى بعد الموت”. فهل “سياسيونا” الآن ما زالوا متمسكين بهذا الدور على الرغم من فشلهم في لعب الدور السياسي الحقّ؟
ما يلفت إليه محمد شمس الدين هو أن “شعبية الطائفي لا تنتهي” متطرقاً الى كميل (كميل شمعون) وكمال (كمال جنبلاط) ليقول: “نعم الزعامات اللبنانية الطائفية ككل لا تموت حتى بعد الممات”.
جبران باسيل هو أكثر من يحاول ان يلعب على هذا الوتر “للبقاء” محاولاً التمثل ببشير وبزعامات صمدت لكنه لا يلعبها “صحّ”. فها هو يوقف مباراة لأنها تخلو برأيه من التوازن الطائفي وهو يحرص على “مخاطبة الجوّ المسيحي” في ما يقول ويفعل، بعد أن فشل في تكريس نفسه كسياسيّ وفق مفهوم “الثقافة السياسية”.
هذه الثقافة السياسية يتحدث عنها الكاتب السياسي فايز قزي قائلاً: “الشباب في لبنان، ممن يمسكون بالسياسة، لا علاقة لهم لا من بعيد او قريب بالثقافة السياسية، بدليل أن 99 في المئة منهم لا يقرأون كتاباً واحداً في السنة. وكلهم “ملطّخون” بأمور كثيرة تبعدهم بُعد السماء عن الأرض عن مفهوم السياسة الحقة التي تبقيهم أحياء وهم أحياء يتنفسون. فالسياسة نزاهة ومدرسة سياسية منها نتعلم، في حين ان من هم عندنا بغالبيتهم (كي لا نتهم الجميع جزافاً)، ينتمون الى بوتقات لا تمتّ الى المدرسة السياسية بصلة بل هي أشبه بسجن روميه، من يسرق سيكارة ويدخل إليها يُصبح تاجر مخدرات. السياسي هو من يُنقذ شعبه ويعمل لخير هذا الشعب، هذا في المفهوم العام، أما هنا فما دخلت السياسة في شعب إلا وأفسدته”.
السياسي اليوم يعيش على “مجد زقزقاته”. تبدل المشهد كثيراً بين أمس وهذه اللحظة. زمان كانت هناك بيوتات سياسية وكانت لها أساليب وقواعد مختلفة. وشتان ما بين سياسي يعرف أصول اللعبة وسياسي يُمسك بطرف اللعبة ويظن أنه فوق “النسيان” وباقٍ باقٍ باقٍ…
هل يمكن أن يكرّس “تويتر” وجود السياسي؟ هل لعبة “تويتر” سمحت للسياسي أن يبقى حياً الى حين يُدفن وبعده؟ صنع الإمام الخميني الثورة الإيرانية بين عامي 1979 و1980 من خلال “شريط الكاسيت”. كان يتحدث عبره ويوزعه في كل أرجاء إيران. لم يكن يوجد في زمانه “تويتر” لكنه استطاع أن يحيا من دونه، بأسلوبه، الى ما بعد مماته. أيام بشير الجميل وكمال جنبلاط وكميل شمعون لم يكن “تويتر” موجوداً لكنهم في نفوس الكثيرين أحياء. فهل زعاماتهم الطائفية هي التي أبقتهم أحياء؟ محمد شمس الدين يعتبر أن “كل من يغرف اليوم من البعد الطائفي الذي عاد يتأجج أكثر من قبل بات يربح أكثر”.
ما رأي فايز قزي؟ يجيب: “أصبح لبنان اليوم “مصحّراً” بالفكر السياسي. وكل من لديه جملتان يرميهما معتبراً أنه حقق الإصابة”، ويستطرد: “لا نتعجب في ما آلت إليه امورنا بعدما افتقرنا الى أمثال فيليب حتي وشارل مالك وكمال جنبلاط وموريس الجميل. فنحن في زمن يخجل فيه السياسي الحقّ من الدخول في “مزبلة” الطواويس والديوك السياسيين. من يحترم نفسه اليوم يبتعد عن هذا الجو المسمى بالسياسي حيث أصبحت السياسة سمسرة. الطبقة السياسية أصبحت مزيفة وأصبح السياسيون مثل “نسوان الفرن”، وحتى من يحاول منهم أن يتذاكى مصوراً نفسه أنه يطرح أفكاراً جديدة فنحن نعتبرها “أفكاراً مكوية”، أي بمعنى أنه يستعين بأفكار قديمة متسخة ويغسلها و”ينشّيها” (من النشاء)، ويستخدمها على أنها أفكاره الجديدة المضيئة. ويظن أنه سيُخلد من خلالها”.
هل الأفكار الطائفية هي “الأفكار المكوية” التي يحاولون البقاء أحياء من خلالها؟ يجيب قزي: “هؤلاء ليسوا لا طائفيين ولا سياسيين لأنهم غير مؤمنين بالطائفة، بقدر ما هم مؤمنون بسرقة الطائفة من خلال الأفكار الطائفية واستغلالها. هذه الافكار لا تكرسهم “سياسيين” و”زعامات”. وبشير، لمن يجهل، لم يمت طائفياً بل هو ابن تجربة سياسية جريئة، دخل الى مدرسة الكتائب وقدم معموديته كرئيس منتخب لكل الجمهورية اللبنانية. وأي سياسي يتكل على الخطاب الديني ليبقى حياً سيموت قبل الموت إذا لم يخرج الى الخطاب الوطني ويخدم الناس. وهل هناك زمان أقسى من هذا الزمان يحتاج فيه الناس الى سياسيين من نوع آخر قادرين على إيجاد الحلول؟ هذا هو دور السياسي. فهل من يجد في نفسه هذا الشرط ليستحق البقاء؟”.
السياسي يموت حين يفقد وهجه السياسي مثله مثل ضوء السيارة التي يتعطل مسارها حين ينطفئ الضوء في الظلمة.
ثمة تناقض بين الرأيين، بين قناعة محمد شمس الدين واقتناع فايز قزي، لكن كلاهما يميزان بين “السياسي- السياسي” وبين من يعتبرون أنفسهم اليوم سياسيين. نعود الى شمس الدين الذي يصرّ على القول “إننا عدنا الى زمن يستخدم فيه كثيرون “النبرة الطائفية” لتكريس أنفسهم سياسيين دائمين ويقول: “هناك سياسيون أمثال زياد بارود، يملكون المقدرة، لكن لا يمكنهم أن يعيشوا هذا المجد ما داموا لا يستخدمون اللغة الطائفية”. ويشرح: “ها هو كامل الأسعد الذي كان وطنياً، على الرغم من كونه شغل الموقع الشيعي السياسي الأول، لكنه لم يتصرف على أنه شيعي لذلك حين غاب نسوه قبل أن يموت ويدفن”. ويستطرد: “الزعامات الطائفية تستمر وتبقى حتى الممات ويرثها غالباً من يأتون بعدها”.
فهل أصاب جبران باسيل بقوله: أنتهي حين أدفن؟ هل ينتهي السياسيون فقط حين يُدفنون؟
الثابت الى كثيرين أن باسيل سيُكثر في الفترة المقبلة من استخدام اللغة الطائفية لأنه عالم أنها الوحيدة القادرة على إبقائه حياً. وما عداها لا شيء. والحلّ؟ يجيب شمس الدين: “الحلّ الجذري يكون من خلال إجراء انتخابات نيابية تحقق العدالة بين كل الطوائف، لأنه طالما النظام السياسي معطل سيستمر الجمود وسيظل من يريدون البقاء أحياء يتمترسون وراءها”.
يبقى أن السياسي هو من يُبدع في خدمة شؤون الناس ويكون قادراً على الإستفادة من “فكره النيّر” في إيجاد الحلول لمشاكل وهموم، من خلال التحليل الجيد والنظرة الشاملة والفكر الثابت. فجيئونا بمثله لإبقائه حياً في العقل والقلب.