الحقيقة الأولى هي أن «الشارع العربي» الذي قيل الكثير في شلله وموته، تحرك. لكن ليس للقضايا التي كانت تحمل الجماهير على النزول إلى الشارع. لنتذكر أن الانتفاضة الفلسطينية الثانية في 2000 واحتلال العراق بعد ثلاثة أعوام كانا المرتين الأخيرتين اللتين شهدتا مظاهرات في العواصم العربية تتعلق بشأن عربي عام (إذا استثنينا المظاهرات التي سارت في بيروت ودمشق سنة 2006 تنديداً بالرسوم المسيئة للرسول). بعد ذلك، وعلى الرغم من حروب إسرائيلية على لبنان وغزة والاقتتال الأهلي – الطائفي في العراق، لم يُسجَّل تحرك شعبي يُذكر حتى بداية الثورة التونسية.
الحقيقة الثانية تتلخص في أن المعارضين، سواء الذين أسقطوا حكامهم أو من سعى منهم إلى هذا الهدف، كانوا يعرفون ماذا يرفضون لكنهم لم يتفقوا على ما يريدون. فهم يرفضون المهانة والفوات والتخلف والعنف الأعمى واقتصاد الزبائنية والفساد، التي كانت تمارسها السلطات… لكنهم كانوا يعجزون تماماً عن الإجابة الواضحة عن أسئلة تطرحها قوى أكثر حنكة وخبرة، مثل أحزاب الإسلام السياسي، في شأن المفاضلة بين الدين والعلمانية كخيار مؤسِّس للدولة، وشكل العلاقة مع الغرب، والقيم الاجتماعية المقبولة أو المرفوضة، وحقوق المرأة، وحرية التعبير والاعتقاد. الارتباك الشديد الذي قابل به الثائرون هذه المعضلات لا يدل على نقص في نضجهم الفكري بل على إدراكهم أن موازين القوى الاجتماعية ليست في صالحهم، وأن خصومهم الذين يدّعون شراكتهم في الثورات، قادرون على عزلهم وقلب الطاولة عليهم باستخدام سلاح الدين والقيم المحافظة، وهو ما حصل في سوريا ومصر وكاد ينجح في تونس.