ماكرون يفتح “جارور شينكر” اللبناني.. مبادرة اللحظة الأخيرة!
لم يبق لدى ماكرون إلا أن يُحرّض اللبنانيين على أهل السياسة في لبنان. حاول أن يجد في القاموس السياسي مفردات يمكن أن تقدم أدق توصيف للسياسيين اللبنانيين، لكنه لم يجدها. كل من يجتمع بالحلقة المحيطة بالرئيس الفرنسي في قصر الأليزيه يسمع مفردات لا تمت بصلة إلى عالم العلاقات الدبلوماسية ولا العلاقات الدولية. صار لبنان حالة فريدة من نوعها، حتى في التعامل الدبلوماسي، بدليل ما يسمع سفراء وقناصل لبنان في الخارج من شتائم وعبارات قاسية تتعلق بالمسؤولين اللبنانيين حصراً!
ليس خافياً على أهل السياسة أن الإليزيه تدخل مع الأميركيين من أجل إقفال جارور العقوبات التي تطال شخصيات لبنانية. العقوبات بحق كل من علي حسن خليل ويوسف فنيانوس وجبران باسيل، أدت إلى إحراج الفرنسيين وتهديد مبادرتهم. لذلك، كان لا بد من تجميد العقوبات، لكن السقف الزمني محدود. هناك مهلة أمام إدارة دونالد ترامب لا تتعدى الشهر الواحد. اللوائح جاهزة وقابلة للزيادة والنقصان. يمكنك أن تختار العقوبة التي تريدها. قانون ماغنيتسكي. قانون قيصر. قانون كاتسا. مكافحة الإرهاب إلخ..
المخاوف مما قد يقدم عليه ترامب وفريقه قائمة ومفتوحة على إحتمالات شتى أبرزها لبنانياً الخشية من “عمل أمني أو عسكري موضعي” وما يمكن أن يليه من تدحرج يحدد المسارات اللاحقة. لكن هل ستكون الترجمة الأولى لما بعد زيارة ماكرون هي إعطاء الضوء الأخضر للأميركيين لـ”تنظيف جارور ديفيد شينكر” من لوائح العقوبات؟
يأتي طرح هذا السؤال في ضوء المقالة التي نشرها المستشار الرئاسي سليم جريصاتي في الزميلة “النهار”، وما إستدرجته من ردود، قد تكون كلها خارج الموضوع الأصلي: هناك رسالة أراد أن يوصلها كاتب المقالة. ما هي هذه الرسالة وإلى مَن هي موجهة بالأساس؟
رُبّ قائل إن جريصاتي كشف أوراق سعد الحريري من خلال ردود الاخير، وبينها انه ضمّن تشكيلته إلى رئيس الجمهورية أربعة أسماء (لا ستة) من أصل اللائحة التي تسلمها من القصر الجمهوري، غداة التكليف، لكن هذا التفسير يبدو ساذجاً إلى حد كبير. هل يسمح لنا أهل القصر فقط بالتفكير وطرح الأسئلة كصحافيين: رسالة جريصاتي التي حتماً وافق عليها رئيس الجمهورية وربما إطلع عليها، هل هدفها المعلن أو المصرح عنه في القصر، هو نفسه هدف صاحبها المضمر؟ هل الرسالة موجهة إلى الداخل أم للخارج وهل وصلت إلى من يُمسك بمفتاح “الجارور” في واشنطن أم لم تصل؟
من يُلم جيداً بموقف العهد، يدرك أن لحظة ما بعد إستقالة الحريري في خريف العام 2019 خلّفت وراءها محيطات من التباعد بين العهد ورئيس تيار المستقبل. كان ميشال عون يتمنى أن يأتي أياً كان رئيسا للحكومة إلا الحريري. ألم يقل للنواب عشية التكليف “قلت كلمتي ولن أمشي، بل سأظلّ على العهد والوعد، وأملي أن تفكروا جيّداً بآثار التكليف على التأليف وعلى مشاريع الإصلاح”؟
هناك من يريد أن يكون مكان سعد الحريري هو الحبس. أن يأتي رئيس للحكومة بمثابة “شرابة خرج”. فقط عليه أن يأتمر بالأوامر. إذا كان هذا “المنتج” غير متوفر، فليكن تصريف الأعمال موسماً عامراً حتى خريف العام 2022. ماذا يضير؟ حتى حسان دياب إذا بقي متمسكاً برفضه تفعيل حكومة تصريف الأعمال، فليكن جزءا من الإدعاء في قضية المرفأ، وعلى المجلس الأعلى للدفاع أن يدير البلد. هل يمكن أن يفاجأ أحد مثلاً لو علم أن وزيرة العدل قررت، قبل ايام قليلة، أن تستأنس برأي زملائها في إمكان عقد جلسات تشاورية لمجلس الوزراء من دون إتخاذ مقررات؟ نعم، يحصل ذلك فقط في الجمهورية اللبنانية ومع هذا “العهد القوي”.
ولمن يريد أن يسأل عن هذه “الأفكار” من أين أتت لوزيرة العدل، أن يراجع فقط من هو الذي قد يقدم على هكذا أفعال في مثل هذه الجمهورية؟ من هو الذي ذهب إلى جيفري فيلتمان يوم كان سفيرا للولايات المتحدة في بيروت في آخر عهد إميل لحود وقال عن ميشال عون ما قاله من كلام كبير جداً، كما تشي وثائق “ويكيليكس”؟
من هو الذي يجعل قاضيا كبيراً يستدعي الصحافيين نهاراً “على فنجان قهوة”، وعندما يحل الليل والسهر، يردد القاضي نفسه أمام “شلته” أنه ينتظر اللحظة التي يترك فيها منصبه لأنه في كل تاريخ تجربته لم يشهد مثل هذا الفجور السياسي وهذا التدخل السياسي في مسارات القضاء؟
هل يعقل بعد ذلك أن يحاول إيمانويل ماكرون إستنقاذ الوضع والدفع بإتجاه ولادة حكومة في لبنان؟
يلتقي رئيس فرنسا مع فئة لبنانية تعتقد أن ميشال عون صادق في خياراته الإصلاحية. ربما هو المعارض الوحيد للنظام. هو الآتي من خارج منظومة الطائف والذي ما زال مشدوداً إلى زمن الجمهورية الأولى. لا يطيق الرجل الطائف ويدرك أن هذا الاتفاق هو الذي صادر الصلاحيات من المسيحيين و”غدر” بهم. لذلك، لا بد من تصحيح هذا الوضع. لا بد من طائف جديد. لا يتفق فريق ماكرون في النظرة إلى عون، لكن الرأي الوازن في الإليزيه يعتبر أن ميشال عون ليس فاسداً. مشكلة الأخير بأنه ألغى نفسه منذ اليوم الأول لوصوله إلى رئاسة الجمهورية. ألم يقل بعد 18 شهراً أن الحملة على العهد “سببها السباق الى رئاسة الجمهورية، ولأن الوزير جبران باسيل يقف على رأس هذا السباق”؟
يعتبر الفرنسيون أن هناك منظومة حاصرت العهد منذ اليوم الأول. المنظومة التي لا يريد عون أن يشكك أحد بها. أن يدقّق في ملفاتها. المنظومة التي تحولت إلى فرقة غنائية تقدم فقط “ما يطلبه المستمع الأول”.
وبرغم كل الضخ السلبي الذي تعرض إليه ماكرون، أصر على أن يتضمن برنامجه إلى لبنان عقد لقاء بروتوكولي مع ميشال عون. قال إنه يحب هذا الرجل وأنه لن يتخلى عن اللياقات التقليدية. قال له البعض أن يترك أمر تحديد اللقاء “إلى آخر لحظة” من أجل الضغط، لكن الرئيس الفرنسي أصر على اللقاء، واعتبر ان عون ليس من بين من خانوه. في الموازاة، طلب من فريقه أن يبذل آخر محاولة، لذلك، تحركت المحركات السياسية الفرنسية في الساعات الأخيرة، بإتجاه كل من الحريري وجبران باسيل، إما لإيجاد جسر لتبادل الأفكار بين الإثنين أو محاولة تنظيم إتصال ثلاثي. لم تنجح المحاولة الفرنسية حتى كتابة هذه السطور لكنها ستستمر حتى آخر لحظة قبل وصول ماكرون في الثاني والعشرين من الشهر الحالي.
لم يكتف الفرنسيون بذلك، بل تعمدوا تسريب معلومات عن طريق شخصيات مقربة منهم مفادها الآتي: ليس صحيحاً أننا لا نفرض عقوبات. العقوبات ستكون أوروبية وليس فرنسية وحسب. ما يؤخر الخطوة الفرنسية هو البعد الداخلي الفرنسي، أي هل ستكون هناك إرتدادات داخلية سلبية لأية خطوة من هذا النوع ضد أية شخصية لبنانية؟ زدْ على ذلك أن الفرنسيين، تعمدوا للمرة الأولى التلويح بالعقوبات الأميركية: لن تتردد الإدارة الأميركية بفرض عقوبات جديدة على من فرضت عليهم عقوبات سابقاً بتهمة الفساد ولكن هذه المرة بتهم متصلة بقانون قيصر أو بدعم الإرهاب.. وهنا المقصود شخصية محددة.
ولعل المفارقة أن ما يخشاه هذا أو ذاك من القيادات و”المستشارين”، تجري مقاربته بطريقة مختلفة من قبل الأميركيين أنفسهم. لا أحد يملك تفسيرا محددا لمواقف الحريري الأخيرة إلا من الزاوية نفسها: ثمة معلومات تتحدث عن نصيحة تلقاها الرئيس المكلف من مسؤول أميركي حالي أن لا يستعجل تأليف الحكومة وتمثيل حزب الله (ولو بعنوان وزيرين إختصاصيين) لأنه سيدفع ثمن ذلك على الفور، أي أن العقوبات يمكن أن تطاله مباشرة. هذه الخشية لا يستطيع الحريري أن يجاهر بها في ظل الضغط الفرنسي الذي لم يهدأ. بطبيعة الحال، لا يغيب عن بال الفرنسيين أن الجميع بات مقتنعاً في لبنان بإستحالة ولادة الحكومة قبل العشرين من كانون الثاني/يناير المقبل. لذلك، قال مسؤول فرنسي لضيفه اللبناني: ثقوا أن الثوابت الأميركية في المنطقة ولبنان لن تتغير. غادروا أوهامكم. فقط جو بايدن سيكون أكثر لباقة.
برغم الأخذ والرد، لن ينسحب الفرنسي من مبادرته اللبنانية لأسبابه، وهذا الأمر عبرت عنه مداولات قمة ماكرون وعبد الفتاح السيسي الأخيرة، طالما أن الخشية الفرنسية ـ المصرية تزداد يوما بعد يوم من أبعاد وتداعيات التمدد التركي في شمال لبنان. لا يتعارض ذلك مع رسائل سيوجهها ماكرون للمسؤولين اللبنانيين، في سياق مكمل للمؤتمر الإنساني الأخير الداعم للبنان، حيث تعمدت دوائر الإليزيه أن تأتي كلمة رئيس جمهورية لبنان بعد كلمات ممثلي المجتمع المدني في لبنان، مثلما جعلوا لبنان شريكا في بيان ختامي تضمن إشارة هي الأولى من نوعها إلى أن لبنان “دولة مفلسة”.
سيقول ماكرون كلاماً صادماً للطبقة السياسية. لا مساعدات عبر الحكومة. الصندوق الائتماني المخصص لـ”الدعم الإنساني”، سيديره البنك الدولي، وفق مقررات مؤتمر باريس الأخير.
في الخلاصة، لا حكومة لبنانية قريباً. هناك حفلة إنتقامية متبادلة سنشهد فصولا لها على التوالي. لن يكون مفاجئاً في خضمها، أن نشهد توافق جميع السياسيين ولو على حساب مصلحة كل اللبنانيين. لنبدأ منذ الآن فصاعداً بتصور سيناريوهات ما بعد الإنهيار الكبير.. للبحث صلة.