صحيح أن الخرق الأول للاتفاق الثلاثي حول ناغورنو قره باخ، والذي ألقت وزارة الدفاع الأرمنية باللائمة على باكو في شأنه، قد تم احتواؤه سريعاً من قبل قيادة وحدة حفظ السلام الروسية في الإقليم، إلا أن مجرّد وقوع مناوشات، ولو محدودة، يحمل دلالات إلى أن الجبهة الأذرية – الأرمنية قابلة للاشتعال في أي وقت، وأن التسوية الميدانية التي حققتها روسيا، والتي استكملت عملياً في الأول من كانون الأول/ديسمبر الحالي حين أوفت يريفان بآخر التزاماتها فيه، لجهة تسليم الأراضي إلى باكو، قد تكون مجرّد ترتيبات هشة.
ما يعزز القلق الذي يمكن أن يثيره الاحتكاك الأخير، هو أن أردوغان يبدو مصرّاً على اعتبار ما تحقق خلال حرب الأربعين يوماً التي ألقت أوزارها قبل شهر، قد يشكل مدخلاً لتحقيق طموحات استراتيجية على رقعة جغرافية واسعة تبدأ بإقليم ناخيتشيفان في أذربيجان وتنتهي بإقليم شينجيانغ في الصين.
على هذا الأساس، كانت زيارة أردوغان إلى باكو مليئة بالرسائل المباشرة وغير المباشرة. الرئيس التركي أحضر معه 2783 عسكرياً تركيا، وهو العدد نفسه للخسائر البشرية المعلنة من قبل أذربيجان في الحرب الأخيرة مع أرمينيا. وعلى هامش الاحتفالات العسكرية بالنصر – التي لم تخلُ من عناصر استفزازية من بينها عرض آليات مدمّرة للجيش الأرمني في شوارع العاصمة الأذرية – قال الرئيس التركي إن الهدف التالي لتركيا واذربيجان، اللتين باتت علاقتهما تختزل في الأدبيات الأردوغانية بعبارة “شعب واحد – دولتان”، هو “مواصلة النضال من أجل إحياء أراضي قره باخ من أجل رفاهية حياة الناس”.
لكن أهم ما طرحه أردوغان خلال الزيارة هو إنشاء منصة من خمس دول – أذربيجان وتركيا وروسيا وإيران وجورجيا – إلى جانب أرمينيا “إذا ما رغبت في ذلك – كإطار جديد للتنمية والأمن الإقليميين في جنوب القوقاز”، وأكد أن بلاده “ليست لديها مشاكل مع الشعب الأرمني”، مشيراً إلى أن “كل شيء يعتمد على موقف القيادة الأرمنية.. فإذا اتخذوا خطوات إيجابية، يمكننا فتح حدودنا مع أرمينيا”.
لكن الانفتاح الذي أبداه أردوغان تجاه أرمينيا – وبصرف النظر عن أنه يأتي من منطلق استعلاء المنتصر – يبقى محاطاً بالشكوك، بحسب ما تظهر التجربة المريرة للعلاقات التركية – الأرمينية، ما يجعل امكانية مشاركة يريفان في المنصة الإقليمية المقترحة من قبل الرئيس التركي ضعيفة للغاية.
ومن المعروف أن التوترات بين أنقرة ويريفان بدأت بعد فترة وجيزة من حصول أرمينيا على استقلالها عن الاتحاد السوفياتي، ففي العام 1993، قطعت تركيا من جانب واحد العلاقات الدبلوماسية مع أرمينيا، وأغلقت الحدود المشتركة تضامناً مع أذربيجان في بدايات الصراع الأرمني- الأذري على ناغورنو قره باخ.
في النصف الثاني من العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، حدث تحسن طفيف في العلاقات التركية – الأرمنية، حيث اقتربت أنقرة ويريفان من التطبيع، وذلك في سياق ما عُرف حينها بـ”دبلوماسية كرة القدم”، يوم استغل الرئيسان سيرج سركسيان وعبد الله غول وصول بلديهما إلى نفس المجموعة المؤهلة لبطولة كأس العالم في كرة القدم للقيام بزيارات متبادلة، ونتيجة لذلك، تم التوقيع عدد من البروتوكولات بشأن إقامة علاقات دبلوماسية وتطوير العلاقات الثنائية في زيوريخ عام 2009. ولكن بضغط من باكو تراجعت تركيا، حيث جمد البرلمان التركي التصديق على البروتوكولات إلى أجل غير مسمى، في خطوة رد عليها الجانب الأرمني بسحب الوثائق من البرلمان.
يضاف إلى ما سبق أن الخلاف حول “الابادة الأرمنية” ما زال يرخي بظلاله على أية محاولة للمضي قدماً في تطبيع العلاقات بين تركيا وأرمينيا.
ووفقًا للمؤرخين، فإن ما بين 800 ألف إلى 1.5 مليون أرمني من الأناضول قتلوا على ايدي العثمانيين خلال الحرب العالمية الأولى، وقد اعترفت عشرات الدول، بما في ذلك روسيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، بوقوع شكل أو أكثر من أشكال الإبادة، لكن تركيا تقول إنَّ ما حدث كان “حرباً بين الأشقاء”، وهي صيغة ترفضها ارمينيا بشكل قاطع.
ما سبق يشي بصعوبة انضمام أرمينيا الى اطار اقليمي بناء على اقتراح تركي، أقله في الوقت الراهن، لا سيما أن الهزيمة في ناغورنو قره باخ قد فجرت أزمة سياسية حادة في يريفان، حيث يصبح من الصعب الترويج لمثل هذه الطروحات، وإن كان بعض النواب الأرمن قد دعا بالفعل إلى الدخول في حوار مع كل من تركيا وأذربيجان، وفي هذه الحالة، فإن وجود منصة اقليمية تضم بشكل خاص روسيا وتركيا قد يشكل ضمانة كبرى لموازنة تأثير التحالف الأذري-التركي على بلادهم.
لكن أرمينيا ليست وحدها الطرف الذي يمكن أن يكون متردداً أو حتى رافضاً المنصة القوقازية، فهناك جورجيا التي باتت منذ الثورة الوردية في موضع النقيض لروسيا، والتي باتت سياساتها الخارجية أكثر التصاقاً بالولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي.
وعلى هذا الأساس، لا شك أن جورجيا قد تلقفت بإيجابية طروحات الرئيس الأميركي المنتخب جو بايدن حول “النهج المتعدد الأطراف تجاه روسيا”، والذي شجعها، إلى جانب دول أخرى في الفضاء ما بعد السوفياتي على غرار مولدوفا وأوكرانيا، على المطالبة بإنشاء منصات خاصة من شأنها تسهيل “إزالة الاحتلال الروسي” للأراضي التي تعتبرها تابعة لها – أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا (جورجيا)، ترانسنيستريا (مولدوفا)، وشبه جزيرة القرم وجمهوريتا دونيتسك ولوغانسك (أوكرانيا).
وفي حال لم يتم إقناع الجورجيين بالانضمام إلى المنصة الاقليمية المقترحة من قبل أردوغان، فإن إنشائها بدون مشاركة تبليسي لن يكون فعالاً، لا بل أن جورجيا قد تتحول الى منبر للتحريض على الفكرة برمتها، من خلال اعتبارها تهديداً للأمن القومي للجمهورية السوفياتية السابقة، على النحو الذي يمكن أن يجر تبليسي الى طلب اقامة قاعدة عسكرية أميركية على أراضيها، أي على مقربة من الحدود الروسية.
من ناحية أخرى، قد تجد إيران وروسيا مصلحة في المقترح الاردوغاني، وإن كانت الطموحات التركية ستظل تشكل بالنسبة إليهما قوة كبح لأية ترتيبات مشتركة.
ومن المعروف أن ايران حافظت منذ التسعينيات على سياسة تدعو إلى التسوية السلمية للصراع في ناغورنو قره باخ المتاخم لحدودها. وفي الوقت ذاته، فإن الموقف الايراني يحمل شقين: من ناحية، تعارض طهران إعادة تشكيل الحدود الرسمية الأذربيجانية، ومن ناحية أخرى، تدعو إلى مراعاة مصالح الأرمن.
ينطلق هذان الموقفان من عوامل سياسية وقومية في آنٍ معاً، فطهران تنظر الى القومية التركية بعين القلق، لا سيما أن هناك 30 مليون اذري في إيران تحاول تركيا استمالتهم، وقد باتوا يطالبون الحكومة الايرانية فعلاً بعدم مساعدة ارمينيا. وفي المقابل، هناك حوالي 200 ألف أرمني يحتلون مناصب متقدمة في النظام الايراني.
علاوة على ما سبق، لا تخفي إيران قلقها من التقارب الأذري-الأميركي والتعاون الأذري-الإسرائيلي باعتبارهما تهديداً مباشراً لأمنها القومي. كذلك، فإنها تبدي نوعاً من التحسس تجاه التحالف الأذري-التركي، والذي غالباً ما يترجم ببعض التوترات الدبلوماسية، على شاكلة القصيدة التي ألقاها رجب طيب أردوغان في باكو، والتي رأى المسؤولون الايرانيون أنها تتضمن دلالات على أن المناطق الشمالية الغربية الإيرانية جزء من أذربيجان.
من هنا، فإن طهران ربما تجد صعوبة في تغيير موقفها العام من الديناميات المحركة للوضع في القوقاز. ومع ذلك فإن المنصة القوقازية التي اقترحها الرئيس التركي قد تشكل فرصة نادرة لمعالجة التوترات الإقليمية، في ظل الضغوط الغربية التي تواجهها الجمهورية الإسلامية، ما يعني أن طهران قد تكون معنية بإنجاحها إذا ما توافرت ضمانات تبدد المخاوف من الطموحات التركية.
ما سبق ينطبق أيضاً على روسيا، وإن كان بقدر أعلى من الحساسيات النابعة اساساً من كون المبادرة الاردوغانية تعني إفساح المجال أمام تركيا لتكون اللاعب في منطقة تعتبر مجالاً حيوياً لموسكو في الفضاء ما بعد السوفياتي.
ومع ذلك فإن المنصة الاقليمية المقترحة قد تشكل عنصراً مهماً للغاية بالنسبة الى روسيا لمواجهة المنصات الإقليمية التي تسعى بعض الجمهوريات السوفياتية السابقة لإنشائها بدعم غربي، ما قد يجعل الخطة الاردوغانية تستحق الدراسة.
وبالرغم من أن وسائل الاعلام التركية تروج الى انفتاح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على الاقتراح الذي تقدم به اردوغان، إلا أنه من المستبعد أن تسمح روسيا – التي جعلها الاتفاق الثلاثي الأخير حول قره باخ لاعباً اساسياً في القوقاز – بمنح تركيا امتيازاً مجانياً لمزاحمة دورها في القوقاز، ما لم تتضمن الخطة المقترحة مخرجات روسية من حيث الشكل والمضمون، إن لجهة تصوير المبادرة الاردوغانية باعتبارها مبادرة روسية في الأساس، أو حتى وضع لمسات روسية على الخطة المقترحة، أو لجهة الضمانات التي ينبغي انتزاعها من الجانب التركي بما يقطع الطريق على رجب طيب أردوغان لمجرد التفكير باحتمال تسيّده لمنطقة القوقاز.