نبيل هيثم-الجمهورية
«تايتانيك من دون مايسترو»… هكذا لخّص جان ايف لودريان سيناريو الانهيار اللبناني. ما قاله وزير الخارجية الفرنسي يعكس الإحباط الذي بات السمة الأساسية لديبلوماسية بلاده في لبنان، منذ أن دخلت مبادرة ايمانويل ماكرون في موت سريري. ستجعل زيارة الرئيس الفرنسي الثالثة، والمرتقبة عشية عيد الميلاد، أقرب إلى زيارة وداع لـ»بلد الأرز»، حيث لا لقاءات سياسية على جدول الأعمال، في ما عدا ربما اللقاء البروتوكولي الرسمي مع رئيس الجمهورية، بحسب ما تسرّب من مصادر ديبلوماسية فرنسية.
غير أنّ ثمة اختلافات كبرى بين «تايتانيك» الأصلية و»تايتانيك اللبنانية». في الأولى كان ثمة قبطان متهور، أراد أن يمضي بأقصى سرعة ممكنة إلى برّ الأمان، فعاكسه جبل الثلج الذي فتك بالسفينة الاسطورية. أما السفينة اللبنانية، فمشكلتها ان لا قبطان واحداً لها، وانما قباطنة، يسعى كل منهم إلى جرّها باتجاه مختلف، لتتمزق بين لحظة وأخرى، تقف عندها البلاد وعبادها بين سيناريوهين أحلاهما مرٌ: إما الاحتضار جوعاً بانتظار الانهيار الكبير، وإما القفز إلى بحر مليء بالألغام المتفجّرة.
وفيما لبنان ماضٍ إلى الانهيار، الذي بات أقرب مما يتوقعه حتى الأكثر تشاؤماً، والذي بات يُقاس بالوقت الباقي أمام نفاد ما تبقّى من احتياطيات العملات الصعبة، فإنّ كل يوم يمضي تزداد معه الألغام المتفجّرة، ولعلّ أخطرها الملف الحكومي الذي يبدو أقرب إلى الانفجار الأوّل، المحفّز لسلسلة الانفجارات المتتالية التي ستضرب لبنان، ابتداءً من ملف التحقيقات في انفجار مرفأ بيروت، مروراً بالتدقيق المالي الجنائي… وليس انتهاءً بالانفجار الاجتماعي المرتقب، فيما الجوع تجاوز عتبات أبواب اللبنانيين، الذين صارت حياتهم كابوساً مليئاً بالأزمات المعيشية في الغذاء والدواء والوقود والتعليم… وقريباً الكهرباء.
من مساوئ قدر اللبنانيين أنّ أحداً لا يأبه بصرخاتهم. هذا ما يتبدّى بشكل خاص، في أنّ الحكومة المنتظرة باتت معلّقة على حبال المحاصصة ما زال البعض مصراً عليها، كما لو أنّ شيئاً لم يتغيّر في البلد، وهو ما تعكسه المواقف التي تتسرّب في كل زيارة يقوم بها الرئيس المكلّف الى القصر الرئاسي، وآخرها الزيارة، التي كشفت المستور، لا سيما بعد حرب البيانات التي بدت أقرب إلى نشر الغسيل، واتخذت شكل رسالة مفتوحة نشرها «الباب العالي» في «الديوان السلطاني» العوني، الوزير السابق سليم جريصاتي، وما تلاها من ردّ صادر عن المكتب الاعلامي لسعد الحريري وآخر من كتلة «تيار المستقبل».
على أساس ما يمكن قراءته بشكل مباشر في حرب البيانات، أو ما بين سطورها، هو أنّ لغمين يعترضان تشكيل الحكومة الحريرية: الأول هو الخلاف حول الهوية الحزبية للوزراء التي يرفضها الحريري، الذي يتمسك باستقلالية الحقائب الوزارية، على خلاف اصرار رئيس الجمهورية حتى بتمثيل الأحزاب السياسية كافة، بما في ذلك تلك التي اعترضت على تسمية الرئيس المكلّف؛ والثاني، الخلاف حول الثلث الضامن، حيث يصرّ الحريري على قسمة 9 وزراء مسيحيين و9 مسلمين، و 6/6/6، من دون تقسيمات سياسية أخرى، في حين يصرّ رئيس الجمهورية على الاستحواذ على الثلث المعطل بـ 7 وزراء.
على هذا الأساس، تضمن ردّ الحريري على «الكتاب المفتوح» بعضاً من أوجه التناحر بين الرئاستين، لا سيما في إشارته إلى تسلّم الرئيس المكلّف لائحة من رئيس الجمهورية بأسماء المرشحين للتوزير في الاجتماع الثاني بينهما، واختياره منها 4 أسماء لشخصيات مسيحية، ما يناقض اتهام رئاسة الجمهورية له بالتفرّد في تسمية الوزراء المسيحيين، وهو ما استدعى رداً على الردّ من المكتب الإعلامي في قصر بعبدا، تضمن تأكيداً على أنّ اعتراض عون قام على طريقة توزيع الحقائب على الطوائف، وأنّه لم يجر البحث في الأسماء المقترحة بجانب مسألة تفرّد الرئيس المكلّف بتسمية الوزراء، وخصوصاً المسيحيين، من دون الاتفاق مع رئيس الجمهورية، وأنّ الأخير لم يطرح يوماً أسماء حزبيين مرشحين للتوزير، ولم يسلّم رسمياً لائحة بأية أسماء.
بذلك، أعاد كل من عون والحريري إدخال لبنان مجدداً في دهاليز لا تبدو معها ولادة الحكومة العتيدة قريبة – إن لم يكن باتت قاب قوسين أو أدنى من أن تبدّد الآمال النادرة – وهو ما يتأكّد في اللهجة البالغة التصعيد الصادرة عن الكتلة البرلمانية لـ«تيار المستقبل»، على هامش حرب البيانات بين القصر الجمهوري وبيت الوسط، وما تضمنته من سهام مسننة، طالت بالمباشر رئيس الجمهورية وفريقه السياسي بملفات عدة، بدءاً بقرار القاضي فادي صوان الادّعاء على رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب، والذي دخل بازار المزايدات السياسية، مروراً بوضع العراقيل والمتاريس التي تعيق تشكيل الحكومة، وصولاً إلى اتهام عون بالسعي لتحويل النظام إلى رئاسي برلماني.
بذلك، يبدو أنّ عملية تشكيل الحكومة «الإنقاذية» قد انتقلت، وبشكل علني، من مجرّد مشاورات حول توزيع الحقائب، إلى صراع مفتوح على الصلاحيات، بما ينذر بمزيد من التأزيم في المشهد السياسي المضطرب بالعواصف الداخلية والإقليمية، وبما يُسقط آخر أوراق التوت على اتفاق الطائف، الذي يثبت يوماً بعد يوم، أنّ ثغراته باتت أخطر مما كان يتوقعه واضعوه، وهو ما يتبدّى بالكثير من الجوانب التي تسمح بالتعطيل، ابتداءً من عدم وضع حدود زمنية دستورياً لعملية تشكيل الحكومات، وصولاً إلى تكريس الخلافات بين السلطات الثلاث، بدليل الجدل الحاد الدائر على خلفية قرار قاضي التحقيق في قضية انفجار مرفأ بيروت، وما أثاره من تنازع في الصلاحيات بين السلطتين التشريعية والقضائية بشأن محاكمة رؤساء الحكومات والوزراء.
هكذا تكتمل فصول الكارثة. لبنان اليوم دخل بالفعل نادي الدول الفاشلة. كل أوجه الحياة اليومية في البلاد تشي بذلك: افلاس مالي يدفع البلاد أكثر فأكثر نحو الانهيار، سلطات متنازعة في ما بينها على أكثر من اتجاه، تسييس للقضاء وتطييف لقراراته، انكشاف على الخارج، جحيم معيشي ينتظره كل لبناني في مختلف اوجه حياته، غذائياً وخدماتياً وصحياً وتعليميا… وبين كل ذلك مؤسسة عسكرية، ربما هي وحدها ما زالت تسمح بالقول، إن ثمة دولة، وها هي اليوم مهدّدة في أكثر من اتجاه: داخلياً، حيث لا يمكن للخلافات القائمة والسياسة المالية الكارثية إلّا أن تضاعف الضغوط عليها، وخارجياً، حيث تتبدّى يوماً بعد آخر المخاطر القادمة من بوابة العدوانية الاسرائيلية والمغامرات الترامبية المرتقبة في ما تبقّى من الولاية الرئاسية الأميركية… وخلايا نائمة تتحرّك بقدرة قادر في كل محطة تصعيد سياسية!