شكّلت إدعاءات المحقق العدلي فادي صوان محطة حرجة في مسار التحقيق في أكبر الجرائم التي عرفها لبنان. هول الكارثة، بأبعادها الوطنية والسياسية والأمنية والإنسانية، كافٍ لإسقاط كلّ الإعتبارات التي قد تقف حائلاً دون الوصول إلى الحقيقة. فظاعة التفاصيل على امتداد سبع سنوات، منذ دخول نيترات الأمونيوم وحتى الإنفجار، لا يختصرها تحقيق ولا إدّعاءات محقق بحق مسؤولين جميعهم سقطوا قبل الإنفجار، مذ تحوّل جزءٍ من مرفأ بيروت إلى مساحة خارجة عن القانون في خدمة إقتصادٍ موازٍ ومشروع هيمنة على لبنان يتناقض مع عروبة لبنان ونهائيته اللتيّن كرّسهما الدستور.
فظاعة الجريمة وكيفية مقاربتها هي معيار تقييم التحقيق وإجراءاته وجهة الإدّعاء والمدّعى عليهم، وكلّ محاولة لوضع أي من هذه العناصر في خدمة هدف سياسي كفيلة بإسقاط المقامات القضائية والسياسية التي تقف وراءها. جسامة الخسائر لا تقاس فقط بالخسائر البشرية والمادية. هي جريمة بحجم إقصاء وطن عن دوره وانتمائه وتغيير هويته ومبرر وجوده، يلزمها محققون بحجم وطن لا يضعونها في خدمة سكان المستنقعات.
بصرف النظر عن تفاصيل الإستدعاءات المنقوصة، وتعارضها الواضح مع الدستور والإحتفاظ بالحصانة لموقع رئاسة الجمهورية وإسقاطها عن مواقع أخرى، يتبادر إلى الذهن السؤال عن مدى قدرة قضاء لا تُحترم التشكيلات التي يضعها مجلسه الأعلى، ولا ينفذ قضاته قرارات الإحالة على التفتيش، ولا يحرك ساكناً في إدّعاءات تتعلّق بملفات الطاقة والإتصالات والكسارات والإعتداءات على الأملاك العامة، على التحقيق وإصدار الأحكام في جريمة القرن.
العدالة لا يختصرها قاضٍ ولا يعيدها إسقاط هالة رئيس أو وزير، وبهذا المعنى يصبح التحقيق في جريمة المرفأ هو البحث في مسؤولية من حوّل المرفأ إلى جزء من منظومة خارجة عن القانون ومن سمح بتسخير الأمن الوطني وشذوذ بعض الأجهزة الأمنية عن مهماتها الأساسية. إنّ إنقاذ الوطن هو مسار تثبته قدرة القضاء على التمرّد الدائم على جنوح سلطة ومواجهة تعسفها لحماية الحريات والحقوق والممتلكات التي يكرسها الدستور ويحميها القانون، وليس بالترويج لأسطورة البطل المنقذ من المشاكل الداخلية والخارجية واختلاق أساطير تخرج من الوجدان لتحاكي سيّر سيف بن ذي يزن وزرقاء اليمامة أو الظاهر بيبرس.
لا يختلف إثنان على تشعّب وصعوبة التحقيق في جريمة المرفأ، والمقام هنا ليس مقام السير في ركب الإستنفارات الطائفية أو اليقظة المتأخرة لحماية الدستور، فالدستور يُخرق مع كلّ جلسة لمجلس الوزراء ومع كلّ جدول أعمال، ويُخرق مع كل ّتوقيع أو رفض توقيع على مرسوم، والأدراج شاهدة على ذلك في كلّ المؤسسات. جريمة المرفأ هي قضية التورط الرسمي في اللعبة الإقليمية، قبل أن تكون قضية محلية تطال أمنيّاً من هنا أو سياسياً من هناك. وعدالة التحقيق هي في الإجابة على إشكالية القدرة على تثبيت السيادة من عدمها، وإشكالية القدرة على تطبيق القانون وتحميل المسؤوليات، بالرغم من تحوّل جزء من مرفأ بيروت إلى منفذ متّصل بإقتصاد الحرب الدائرة في سوريا في ظلّ متغيّرات حادة تشهدها المنطقة. وهي مأزق فقدان القضاء لحياديته إن لم يكن قادراً على ممارسة دوره ومأزق تشتته بين العجز عن مقاضاة سلطة مرتكبة وقدرة الاحتفاظ باحترام اللبنانيين.
إنّ البحث عن بطل أسطوري يحقق العدالة يبدأ بالبحث عن بطل يستعيد السيادة.
* مدير المنتدى الإقليمي للدراسات والإستشارات