الأخبار- محمد نور الدين
حتى الآن، لا يقف شيء أمام اندفاعات الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان. وبخلاف انتقادات معارضيه، وهم كثر جداً، يواصل تمدُّده في كلّ مكان برّاً وبحراً وجوّاً. والمقصود بـ«جوّاً»، استخدام تركيا الطائرات المسيّرة وأخرى من دون طيار لحسم المعارك (مثل معركة طرابلس الغرب والتقدّم نحو محور سرت – الجفرة في ليبيا)، ولتصير هذه المسيّرات العمود الأساسي في حروب تركيا الخارجية.
في أذربيجان، أظهرت المعارك الدور البارز والقاتل لتلك المسيّرات في تدمير آليات الجيش الأرميني ومعدّاته، وفي تقدُّم الجيش الأذربيجاني. كما أن تركيا تستخدم هذا النوع من الطائرات، المصنّعة محليّاً، في عملياتها ضدّ «حزب العمال الكردستاني» في شمال العراق، وكذلك في سوريا من وقت إلى آخر. ولم يكن مستشار رئيس الحكومة اليوناني مخطئاً حين تحدّث عن إنفاق أنقرة المليارات من الدولارات، في السنوات الأخيرة، لتعزيز صناعاتها العسكرية (الجوية والبحرية)، وتالياً تفعيل دورها من البحر الأسود إلى شرق المتوسط.
توسّعت تركيا بطريقة أو بأخرى حيث أمكن لها ذلك. وقد وجدت الفرصة مناسبة في صيف عام 2016 لتوقِع روسيا في أفخاخ أوهام أنه يمكن لموسكو أن تبعد أنقرة عن «حلف شمال الأطلسي»، من طريق عقد صفقات معها قضت بشرائها منظومة صواريخ «إس-400»، ومدّ خط أنابيب «السيل التركي» عبر البحر الأسود، كما بتلزيم الروس بناء مفاعل نووي في منطقة أقويو إلى الجنوب من مرسين. في المقابل، كان الجيش التركي، وبذريعة القضاء على الممرّ الكردي في شمال سوريا، يحظى بضوء أخضر روسي لبدء عملية «درع الفرات» ومن ثمّ «غصن الزيتون» وأخيراً «نبع السلام»، لتضمّ تركيا إلى سيطرتها أجزاء واسعة من الأراضي السورية التي تعتبرها – وهذا هدفها الأصلي – جزءاً من حدود «الميثاق الملّي» الذي وُضع عام 1920. أما منطقة إدلب، فهي خزّان أنقرة لإنشاء جيش موازٍ أو رديف للجيش التركي يمكن من خلاله تدريب عشرات الآلاف من المسلحين تحت مسمّيات مختلفة، من «جبهة النصرة» إلى «الحزب الإسلامي التركستاني» إلى «جند الله”»… وتحوّلت «منصّة إدلب» إلى منطلق لتصدير المسلّحين إلى مناطق سوريا الأخرى وإلى ليبيا ثمّ قره باغ وغيرها من بلاد الله الواسعة.
ومن ثمّ أطلقت تركيا شعاراً جديداً هو «الوطن الأزرق»، لتبدأ محاولات بسط سيطرتها ونفوذها في شرق المتوسّط وربّما غربه، وفي البحر الأسود، وغداً ربّما في بحر قزوين. في النتائج حتى الآن، حقّقت أنقرة في هذه المناطق توسعاً ثابتاً يتّصل بالأرض والتاريخ، فيما ارتبطت مكاسب روسيا من تركيا بمصالح ظرفية اقتصادية وموضعية، بعدما فشلت في رهانها على إحداث شرخ بين أنقرة و«الأطلسي»، الذي انبرى، في قمة بروكسل الأوروبية الأخيرة، ليشكّل سدّاً منيعاً أمام فرض عقوبات أوروبية على حليفته. مع نهاية الصيف، كان المشروع التركي يَظهر في ساحة جديدة هي جنوب القوقاز، «الحديقة الخلفية» لروسيا والمجاورة بامتياز لإيران. تكاد تطورات هذه المنطقة والحرب بين أذربيجان وأرمينيا والاتفاق الذي أنهاها، تشبه كثيراً ما جرى ويجري في سوريا.
ربحت تركيا، عبر أذربيجان، الحرب ضدّ أرمينيا، وكان إردوغان يعلن، حتى قبل الرئيس الأذربيجاني، إلهام علييف، أخبار سقوط هذه المدينة أو تلك بيد باكو. الأسلحة التركية، ولا سيما المسيّرات، لعبت، كما روّجت وسائل الإعلام، دوراً حاسماً في القتال. وحين انتهت الحرب وأرادت باكو أن تحتفل بالنصر، كان الرئيس التركي حاضراً جنباً إلى جنب نظيره الأذربيجاني، أو لعلّ علييف كان حاضراً جنب إردوغان. الاتفاق الذي حصل حول قره باغ، ومن ثمّ احتفال الرئيس التركي بالنصر في باكو وخطابه هناك، كانا بمثابة تدشين لمرحلة جديدة ثالثة من التوسّع التركي، بعد مرحلتَي «الميثاق الملّي» و«الوطن الأزرق»، عنوانها «الطورانية الجديدة».
لم تكن منطقة القوقاز يوماً جزءاً من الدولة العثمانية. حروب العثمانيين مع الروس ومع الصفويين جعلت المنطقة خارج الأطماع العثمانية. وبالكاد كان الجيش العثماني يدخل باكو صيف 1918 حتى جاء الإنكليز وأخرجوه. لكن وزير الحربية العثماني، أنور باشا، المعروف بـ«باشا الخراب»، الذي كان أحد ثلاثة (مع جمال وطلعت) تسبّبوا بالانهيار الكبير للدولة العثمانية، كان حاضراً في خطاب إردوغان من باكو عندما ترحّم هذا الأخير على روحه وعلى روح نوري باشا الملقّب بـ«فاتح باكو» وهو ما فتح عليه، كما ورد في صحيفة «أغوس» الأرمينية في تركيا، نيراناً؛ إذ رأى هؤلاء أن تَرحُّم إردوغان عليهما هو إمعان في الكراهية للأرمن لأنّهما كانا من مدبّري الإبادة الأرمينية عام 1915، كما ارتكبا مجازر ضدّ الأرمن في باكو. لم يكتفِ إردوغان بالترحُّم على أنور ونوري باشا، بل وعد بأنه سيزور مدينة شوشي في قره باغ حالما تنتهي ورشة شقّ الطرق بين مناطق الإقليم، بما يُحكم سيطرة أذربيجان عليه.
لكن ما كان حاضراً، عمليّاً، أكثر من غيره، هو ذلك المكسب الكبير الذي حقّقه إردوغان في اتفاق قره باغ، والذي لحظ إقامة ممرّ بري وسكة حديد مباشرة من مقاطعة نخجوان ذات الحكم الذاتي إلى أذربيجان عبر الأراضي الأرمينية. يقول الرئيس السابق لأركان الجيش التركي، إيلكير باشبوغ، والذي أودعه إردوغان السجن لفترة بتهمة تعاونه مع جماعة فتح الله غولِن والتآمر لخلعه، إنه ليس أفضل من انعكاس لمقولة «شعب واحد في دولتين» من إقامة هذا الممرّ المباشر بين تركيا وأذربيجان. بل قال إن «البذرة التي زرعها أتاتورك عام 1921 نبت زرعها اليوم بعد مئة عام. وأيّ فرحة يمكن أن تكون أكبر من رؤية هذا الحلم يتحقّق؟». وفي مقالة لصحيفة «جمهورييت»، رأى أن نخجوان هي «بوابة تركيا» إلى العالم التركي، وهو وصف عائد لأتاتورك عام 1921 (نص اتّفاق موسكو بين لينين وأتاتورك في 21 آذار/ مارس 1921 على اعتبار نخجوان منطقة حكم ذاتي).
وكما سلّم الروس السوفيات نخجوان إلى أذربيجان (وتركيا بالتالي) قبل مئة عام، فإن روسيا اليوم، بقيادة فلاديمير بوتين، وافقت على فتح ممرّ بري مباشر من نخجوان إلى باكو، بما يؤكد صفتها كـ«بوابة تركيا» إلى العالم التركي. إعطاء تركيا، وأذربيجان، مثل هذا الخطّ يعني تحولاً جيوسياسياً خطيراً. ولا يمكن التقليل من أهمية الممرّ المذكور كما يحاول البعض، من خلال القول إنه تحت إشراف الجيش الروسي. فالاتفاقية أصبحت دولية، والممرّ أصبح أذربيجانياً – تركياً وله قوة قانونية دولية وعليه توقيع يريفان وباكو. ما فعلته روسيا مع الأتراك في سوريا، تكرّره الآن في جنوب القوقاز: إعطاء جوائز لتركيا من حصّة الآخرين. فالممرّ التركي جنوب القوقاز وُضع مقابل تشريع ممرّ لاتشين بين أرمينيا ومنطقة قره باغ. لكن من الجليّ أن أهمية الممرّ التركي تفوق أضعافاً ممرّ لاتشين، خصوصاً أن قره باغ بات نصفها خارج سيطرة الأرمن ونصفها الآخر تحت سيطرة الروس. كما أن ممرّ لاتشين يبقى محلياً، فيما الممرّ التركي بات دولياً. أكثر من ذلك، فإن الممرّ التركي يغني الأتراك والأذربيجانيين عن المرور عبر الأراضي الإيرانية. وهذا، في علم الجغرافيا السياسية، يعني خسارة إيران لإحدى أوراقها في جنوب القوقاز.
وإذا كانت إيران بدت مرتبكة خلال الحرب الأذربيجانية – الأرمينية، فإن وقوفها إلى جانب باكو، مراعاةً لانتماء قسم كبير من سكّانها إلى العرق الآذري، لم يقدّم لها مكاسب ملموسة، سوى إبقاء العلاقة مع باكو خارج دائرة العداء، على رغم أن هذا أيضاً ليس دقيقاً. فالأخيرة لا تزال قاعدة ومنصّة لإسرائيل لاستهداف طهران وزعزعة الأمن والاستقرار فيها. وفي احتفال النصر في باكو، قرأ الرئيس التركي، وسط حركة رأس مؤيدة من علييف، أبياتاً للشاعر الإيراني من أصل آذري، محمد إبراهيموف. وجاء في الأبيات التي سمّاها إردوغان «أغنية أراس»:
لقد فصلوا أراس
وملأوه بالرمل
لم أكن لأفترق عنك
لكن فصلونا بالقوة
آه يا لاتشين، يا روحي يا لاتشين
فداك يا لاتشين
استكمل إردوغان خطابه بالقول: «لقد أصبحت لاتشين حرة وكذلك شوشي وفضولي وأغدام…»؛ ولاتشين هي المنطقة الواقعة بين أرمينيا وقره باغ، أما أراس فهو النهر الذي يفصل بين إيران وأذربيجان وبين تركيا وأرمينيا. استفزّت قراءة هذه الأبيات الإيرانيين، فاعتبر وزير الخارجية، محمد جواد ظريف، أن إردوغان قرأ أبياتاً لا يعرف معناها وهي تتحدّث عن الشوق لأذربيجان الإيرانية، ما يعني أنه ضدّ استقلال حليفته. أما المسؤول في الخارجية، أمير عبد اللهيان، فقد دعا الرئيس التركي إلى فهم تاريخ إيران جيداً. كانت ردود الفعل الإيرانية حادّة ومستنكرة بشدّة، ما استدعى استدعاء السفير التركي في طهران، ديريا أورس، وإبلاغه احتجاجاً شديد اللهجة والطلب منه تفسيراً لما حصل. وكانت ردّة فعل الصحافة الأقسى، إذ وصفت إردوغان بـ«الشيطان»، وشَبّهته بالرئيس العراقي الراحل صدام حسين. كما بدأت حملة في بعض المواقع الإيرانية لمقاطعة المنتجات التركية.
بالتأكيد، يعرف إردوغان ما قرأ ويفهمه أيضاً. فالشعر كُتب باللغة الأذربيجانية التي يفهمها الأتراك مثل لغتهم. وما كان يتحدّث به الرئيس التركي عن حلب والميثاق الملّي هو نفسه الذي يتحدّث به الآن عن أراس ولاتشين. لم يكن هذا جديداً على الرئيس التركي، فهو، حتى في ذروة العلاقات الجيدة مع طهران، كان يصف سياسة الجمهورية الإسلامية بالتوسّعية الفارسية. لكن الآية تنقلب الآن، إذ إن إردوغان يضع العين مباشرة على التراب الإيراني.
ويتّضح المشهد التركي الجديد أكثر من خلال افتتاحية إبراهيم قره غول، رئيس تحرير صحيفة «يني شفق» الموالية لإردوغان، والذي وصف الجيش التركي بـ«جيش السماوات» و«جيش الإسلام»، قائلاً إن بلاده اليوم تمثّل امتداداً للدول الإسلامية الكبرى في التاريخ. وقال قره غول إن نداء إردوغان من باكو ليس لقره باغ ولا لأرمينيا فقط بل لكلّ العالم. وأضاف: «إن درع الفرات كانت مجرّد بداية، وسيرى العالم الكثير مما هو جديد، وما زلنا في بداية المشوار ولم نبدأ بعد بالزحف».
لقد استنزفت تركيا إيران في سوريا بالنقاط، وهي تضغط عليها في العراق. واليوم، تبدأ حرب استنزاف لطهران في القوقاز، بل في إيران نفسها. وسجّلت تركيا، عبر الممرّ التركي ومركز المراقبة المشترك مع الروس في أغدام والاحتفال بالنصر في باكو، نقاطاً في المرمى الإيراني. وما سيلي رهن بمدى استمرار الجمهورية الإسلامية من عدمه في سياساتها «المرنة» والاستيعابية المتّبعة، حتى الآن، في مواجهة التهديد التركي الجديد عند عتبة الخاصرة الإيرانية مباشرة وبالشراكة مع باكو. فما الذي ستفعله طهران في هذه المواجهة الجديدة التي تضاف إلى انشغالاتها على أكثر من جبهة؟
في أذربيجان، أظهرت المعارك الدور البارز والقاتل لتلك المسيّرات في تدمير آليات الجيش الأرميني ومعدّاته، وفي تقدُّم الجيش الأذربيجاني. كما أن تركيا تستخدم هذا النوع من الطائرات، المصنّعة محليّاً، في عملياتها ضدّ «حزب العمال الكردستاني» في شمال العراق، وكذلك في سوريا من وقت إلى آخر. ولم يكن مستشار رئيس الحكومة اليوناني مخطئاً حين تحدّث عن إنفاق أنقرة المليارات من الدولارات، في السنوات الأخيرة، لتعزيز صناعاتها العسكرية (الجوية والبحرية)، وتالياً تفعيل دورها من البحر الأسود إلى شرق المتوسط.
توسّعت تركيا بطريقة أو بأخرى حيث أمكن لها ذلك. وقد وجدت الفرصة مناسبة في صيف عام 2016 لتوقِع روسيا في أفخاخ أوهام أنه يمكن لموسكو أن تبعد أنقرة عن «حلف شمال الأطلسي»، من طريق عقد صفقات معها قضت بشرائها منظومة صواريخ «إس-400»، ومدّ خط أنابيب «السيل التركي» عبر البحر الأسود، كما بتلزيم الروس بناء مفاعل نووي في منطقة أقويو إلى الجنوب من مرسين. في المقابل، كان الجيش التركي، وبذريعة القضاء على الممرّ الكردي في شمال سوريا، يحظى بضوء أخضر روسي لبدء عملية «درع الفرات» ومن ثمّ «غصن الزيتون» وأخيراً «نبع السلام»، لتضمّ تركيا إلى سيطرتها أجزاء واسعة من الأراضي السورية التي تعتبرها – وهذا هدفها الأصلي – جزءاً من حدود «الميثاق الملّي» الذي وُضع عام 1920. أما منطقة إدلب، فهي خزّان أنقرة لإنشاء جيش موازٍ أو رديف للجيش التركي يمكن من خلاله تدريب عشرات الآلاف من المسلحين تحت مسمّيات مختلفة، من «جبهة النصرة» إلى «الحزب الإسلامي التركستاني» إلى «جند الله”»… وتحوّلت «منصّة إدلب» إلى منطلق لتصدير المسلّحين إلى مناطق سوريا الأخرى وإلى ليبيا ثمّ قره باغ وغيرها من بلاد الله الواسعة.
ومن ثمّ أطلقت تركيا شعاراً جديداً هو «الوطن الأزرق»، لتبدأ محاولات بسط سيطرتها ونفوذها في شرق المتوسّط وربّما غربه، وفي البحر الأسود، وغداً ربّما في بحر قزوين. في النتائج حتى الآن، حقّقت أنقرة في هذه المناطق توسعاً ثابتاً يتّصل بالأرض والتاريخ، فيما ارتبطت مكاسب روسيا من تركيا بمصالح ظرفية اقتصادية وموضعية، بعدما فشلت في رهانها على إحداث شرخ بين أنقرة و«الأطلسي»، الذي انبرى، في قمة بروكسل الأوروبية الأخيرة، ليشكّل سدّاً منيعاً أمام فرض عقوبات أوروبية على حليفته. مع نهاية الصيف، كان المشروع التركي يَظهر في ساحة جديدة هي جنوب القوقاز، «الحديقة الخلفية» لروسيا والمجاورة بامتياز لإيران. تكاد تطورات هذه المنطقة والحرب بين أذربيجان وأرمينيا والاتفاق الذي أنهاها، تشبه كثيراً ما جرى ويجري في سوريا.
ربحت تركيا، عبر أذربيجان، الحرب ضدّ أرمينيا، وكان إردوغان يعلن، حتى قبل الرئيس الأذربيجاني، إلهام علييف، أخبار سقوط هذه المدينة أو تلك بيد باكو. الأسلحة التركية، ولا سيما المسيّرات، لعبت، كما روّجت وسائل الإعلام، دوراً حاسماً في القتال. وحين انتهت الحرب وأرادت باكو أن تحتفل بالنصر، كان الرئيس التركي حاضراً جنباً إلى جنب نظيره الأذربيجاني، أو لعلّ علييف كان حاضراً جنب إردوغان. الاتفاق الذي حصل حول قره باغ، ومن ثمّ احتفال الرئيس التركي بالنصر في باكو وخطابه هناك، كانا بمثابة تدشين لمرحلة جديدة ثالثة من التوسّع التركي، بعد مرحلتَي «الميثاق الملّي» و«الوطن الأزرق»، عنوانها «الطورانية الجديدة».
لم تكن منطقة القوقاز يوماً جزءاً من الدولة العثمانية. حروب العثمانيين مع الروس ومع الصفويين جعلت المنطقة خارج الأطماع العثمانية. وبالكاد كان الجيش العثماني يدخل باكو صيف 1918 حتى جاء الإنكليز وأخرجوه. لكن وزير الحربية العثماني، أنور باشا، المعروف بـ«باشا الخراب»، الذي كان أحد ثلاثة (مع جمال وطلعت) تسبّبوا بالانهيار الكبير للدولة العثمانية، كان حاضراً في خطاب إردوغان من باكو عندما ترحّم هذا الأخير على روحه وعلى روح نوري باشا الملقّب بـ«فاتح باكو» وهو ما فتح عليه، كما ورد في صحيفة «أغوس» الأرمينية في تركيا، نيراناً؛ إذ رأى هؤلاء أن تَرحُّم إردوغان عليهما هو إمعان في الكراهية للأرمن لأنّهما كانا من مدبّري الإبادة الأرمينية عام 1915، كما ارتكبا مجازر ضدّ الأرمن في باكو. لم يكتفِ إردوغان بالترحُّم على أنور ونوري باشا، بل وعد بأنه سيزور مدينة شوشي في قره باغ حالما تنتهي ورشة شقّ الطرق بين مناطق الإقليم، بما يُحكم سيطرة أذربيجان عليه.
لكن ما كان حاضراً، عمليّاً، أكثر من غيره، هو ذلك المكسب الكبير الذي حقّقه إردوغان في اتفاق قره باغ، والذي لحظ إقامة ممرّ بري وسكة حديد مباشرة من مقاطعة نخجوان ذات الحكم الذاتي إلى أذربيجان عبر الأراضي الأرمينية. يقول الرئيس السابق لأركان الجيش التركي، إيلكير باشبوغ، والذي أودعه إردوغان السجن لفترة بتهمة تعاونه مع جماعة فتح الله غولِن والتآمر لخلعه، إنه ليس أفضل من انعكاس لمقولة «شعب واحد في دولتين» من إقامة هذا الممرّ المباشر بين تركيا وأذربيجان. بل قال إن «البذرة التي زرعها أتاتورك عام 1921 نبت زرعها اليوم بعد مئة عام. وأيّ فرحة يمكن أن تكون أكبر من رؤية هذا الحلم يتحقّق؟». وفي مقالة لصحيفة «جمهورييت»، رأى أن نخجوان هي «بوابة تركيا» إلى العالم التركي، وهو وصف عائد لأتاتورك عام 1921 (نص اتّفاق موسكو بين لينين وأتاتورك في 21 آذار/ مارس 1921 على اعتبار نخجوان منطقة حكم ذاتي).
وكما سلّم الروس السوفيات نخجوان إلى أذربيجان (وتركيا بالتالي) قبل مئة عام، فإن روسيا اليوم، بقيادة فلاديمير بوتين، وافقت على فتح ممرّ بري مباشر من نخجوان إلى باكو، بما يؤكد صفتها كـ«بوابة تركيا» إلى العالم التركي. إعطاء تركيا، وأذربيجان، مثل هذا الخطّ يعني تحولاً جيوسياسياً خطيراً. ولا يمكن التقليل من أهمية الممرّ المذكور كما يحاول البعض، من خلال القول إنه تحت إشراف الجيش الروسي. فالاتفاقية أصبحت دولية، والممرّ أصبح أذربيجانياً – تركياً وله قوة قانونية دولية وعليه توقيع يريفان وباكو. ما فعلته روسيا مع الأتراك في سوريا، تكرّره الآن في جنوب القوقاز: إعطاء جوائز لتركيا من حصّة الآخرين. فالممرّ التركي جنوب القوقاز وُضع مقابل تشريع ممرّ لاتشين بين أرمينيا ومنطقة قره باغ. لكن من الجليّ أن أهمية الممرّ التركي تفوق أضعافاً ممرّ لاتشين، خصوصاً أن قره باغ بات نصفها خارج سيطرة الأرمن ونصفها الآخر تحت سيطرة الروس. كما أن ممرّ لاتشين يبقى محلياً، فيما الممرّ التركي بات دولياً. أكثر من ذلك، فإن الممرّ التركي يغني الأتراك والأذربيجانيين عن المرور عبر الأراضي الإيرانية. وهذا، في علم الجغرافيا السياسية، يعني خسارة إيران لإحدى أوراقها في جنوب القوقاز.
وإذا كانت إيران بدت مرتبكة خلال الحرب الأذربيجانية – الأرمينية، فإن وقوفها إلى جانب باكو، مراعاةً لانتماء قسم كبير من سكّانها إلى العرق الآذري، لم يقدّم لها مكاسب ملموسة، سوى إبقاء العلاقة مع باكو خارج دائرة العداء، على رغم أن هذا أيضاً ليس دقيقاً. فالأخيرة لا تزال قاعدة ومنصّة لإسرائيل لاستهداف طهران وزعزعة الأمن والاستقرار فيها. وفي احتفال النصر في باكو، قرأ الرئيس التركي، وسط حركة رأس مؤيدة من علييف، أبياتاً للشاعر الإيراني من أصل آذري، محمد إبراهيموف. وجاء في الأبيات التي سمّاها إردوغان «أغنية أراس»:
لقد فصلوا أراس
وملأوه بالرمل
لم أكن لأفترق عنك
لكن فصلونا بالقوة
آه يا لاتشين، يا روحي يا لاتشين
فداك يا لاتشين
استكمل إردوغان خطابه بالقول: «لقد أصبحت لاتشين حرة وكذلك شوشي وفضولي وأغدام…»؛ ولاتشين هي المنطقة الواقعة بين أرمينيا وقره باغ، أما أراس فهو النهر الذي يفصل بين إيران وأذربيجان وبين تركيا وأرمينيا. استفزّت قراءة هذه الأبيات الإيرانيين، فاعتبر وزير الخارجية، محمد جواد ظريف، أن إردوغان قرأ أبياتاً لا يعرف معناها وهي تتحدّث عن الشوق لأذربيجان الإيرانية، ما يعني أنه ضدّ استقلال حليفته. أما المسؤول في الخارجية، أمير عبد اللهيان، فقد دعا الرئيس التركي إلى فهم تاريخ إيران جيداً. كانت ردود الفعل الإيرانية حادّة ومستنكرة بشدّة، ما استدعى استدعاء السفير التركي في طهران، ديريا أورس، وإبلاغه احتجاجاً شديد اللهجة والطلب منه تفسيراً لما حصل. وكانت ردّة فعل الصحافة الأقسى، إذ وصفت إردوغان بـ«الشيطان»، وشَبّهته بالرئيس العراقي الراحل صدام حسين. كما بدأت حملة في بعض المواقع الإيرانية لمقاطعة المنتجات التركية.
بالتأكيد، يعرف إردوغان ما قرأ ويفهمه أيضاً. فالشعر كُتب باللغة الأذربيجانية التي يفهمها الأتراك مثل لغتهم. وما كان يتحدّث به الرئيس التركي عن حلب والميثاق الملّي هو نفسه الذي يتحدّث به الآن عن أراس ولاتشين. لم يكن هذا جديداً على الرئيس التركي، فهو، حتى في ذروة العلاقات الجيدة مع طهران، كان يصف سياسة الجمهورية الإسلامية بالتوسّعية الفارسية. لكن الآية تنقلب الآن، إذ إن إردوغان يضع العين مباشرة على التراب الإيراني.
ويتّضح المشهد التركي الجديد أكثر من خلال افتتاحية إبراهيم قره غول، رئيس تحرير صحيفة «يني شفق» الموالية لإردوغان، والذي وصف الجيش التركي بـ«جيش السماوات» و«جيش الإسلام»، قائلاً إن بلاده اليوم تمثّل امتداداً للدول الإسلامية الكبرى في التاريخ. وقال قره غول إن نداء إردوغان من باكو ليس لقره باغ ولا لأرمينيا فقط بل لكلّ العالم. وأضاف: «إن درع الفرات كانت مجرّد بداية، وسيرى العالم الكثير مما هو جديد، وما زلنا في بداية المشوار ولم نبدأ بعد بالزحف».
لقد استنزفت تركيا إيران في سوريا بالنقاط، وهي تضغط عليها في العراق. واليوم، تبدأ حرب استنزاف لطهران في القوقاز، بل في إيران نفسها. وسجّلت تركيا، عبر الممرّ التركي ومركز المراقبة المشترك مع الروس في أغدام والاحتفال بالنصر في باكو، نقاطاً في المرمى الإيراني. وما سيلي رهن بمدى استمرار الجمهورية الإسلامية من عدمه في سياساتها «المرنة» والاستيعابية المتّبعة، حتى الآن، في مواجهة التهديد التركي الجديد عند عتبة الخاصرة الإيرانية مباشرة وبالشراكة مع باكو. فما الذي ستفعله طهران في هذه المواجهة الجديدة التي تضاف إلى انشغالاتها على أكثر من جبهة؟