جورج شاهين-الجمهورية
لا يخفي عدد من الديبلوماسيين الغربيين خوفهم من صعوبة تشكيل «حكومة المهمّة» كما سمّتها المبادرة الفرنسية، فكل ما هو ثابت يوحي أنّها مهمة مستحيلة، ولم يعد من السهل تدارك ما آل اليه الوضع من تعقيدات. وهو ما يلقي بالمسؤولية على منظومة سياسية، عليها ان تسمّي من يتولّى المهمة الاستثنائية في الظرف الاستثنائي. وهو ما ادّى الى طرح السؤال: هل هو موجود أم مفقود؟
بعيداً من شكل ومضمون البيانات الصادرة عن مجموعة الدعم الدولية من اجل لبنان والهيئات الاممية، وتلك التي رافقت اطلاق المبادرة الفرنسية منذ الاول من ايلول الماضي، تتداول الاوساط الديبلوماسية معلومات وسيناريوهات خالية من الأوصاف المنمّقة التي تتحدث عنها كتب العلوم السياسية، وأُغدقت على الحكومة المطلوبة. فما حفلت به من شعارات برّاقة لا تعدو كونها محفّزاً لدغدغة عواطف اللبنانيين وارضاء الديبلوماسية الدولية والاممية، وخصوصاً تلك الراغبة أن يسلك لبنان درب الخلاص من مسلسل الأزمات المتشعبة التي تتناسل تلقائياً وتقود الى مزيد من الانهيارات بدلاً من ولوج نهاية النفق المظلم.
ليس في ما سبق مجرد معادلة او نظرية سياسية مجرّدة، بل انّها القراءة الواقعية التي تتبادلها الاوساط الديبلوماسية، قياساً على حجم تجاوب اللبنانيين مع مجموعة النصائح والملاحظات التي وُجّهت اليهم منذ عقدين على الأقل. فالصيغة المكرّرة لخريطة الطريق الدولية، تلك التي قالت بها المبادرة الفرنسية، ان بقيت مطروحة غير موجودة، ولو في الشكل. واياً كانت الصيغة التي استُخدمت لإيصالها الى اهل الحكم بكل الوسائل المتاحة، الديبلوماسية منها او تلك التي استنسختها المبادرات المتتالية، منذ ان انطلق مسلسل مؤتمرات باريس الثلاثة وصولاً الى «سيدر 1»، فقد بقيت حبراً على ورق عندما عجز اللبنانيون، عن قصد او غير قصد، عن ترجمتها في كل المجالات الإدارية والمالية او السياسية والدستورية.
على هذه الخلفيات، ولمجرد استعراض كل هذه المراحل وما حملته من معطيات، ترتفع نسبة القلق من امكان ان يرى اللبنانيون ترجمة هذه الخطوات. فقد تبخرت كل الوعود التي قُطعت قبل ان تنطلق المراحل التنفيذية لأي منها. و»عادت حليمة الى عادتها القديمة» في المماطلة، لتعطيل الحلول المقترحة، لمجرد انّها اصطدمت بمصالح طبقة سياسية قادرة على تعطيل مفاعيل اي قرار يمسّ مصالحها اليومية، ولو على حساب الوطن، الى ان تجاوزت الأزمات ما كان متوقعاً، فاجتاحت مصالحهم ومصالح الشعب اللبناني بكامله، وصولاً الى الانهيار الكبير الذي تشهده البلاد بنحو غير مسبوق.
ففي الوقت الذي يواجه العالم ما تسببت به جائحة «كورونا»، ظهر في لبنان انّ هذه الجائحة اقل تأثيراً على اللبنانيين من مسلسل النكبات التي يعيشونها اقتصادياً ونقدياً واجتماعياً وامنياً، وخصوصاً في المرحلة التي اعقبت نكبة مرفأ بيروت وتردداتها الخطيرة على المصالح القومية والوطنية اللبنانية. والأخطر انّها لم تؤدِ الى اعتراف مسؤول واحد بمسؤوليته عن النكبة، على رغم معرفة الجميع بالظروف التي ادّت الى ما حصل وحجم الفساد والاهمال المستشري الذي عبّر عنه انفجار العنبر الرقم 12 في مرفأ بيروت، بأصدق صورة ممكنة، لمن يقدّر حجم الجريمة المرتكبة وما سيترتب عليها من نتائج كارثية، لا تقف عند حدود ضحايا الإنفجار وحجمهم ومدى تأثيره على مستقبل الاقتصاد في البلاد للعقود المقبلة.
ومن هذه المعادلة بالذات، ينطلق الديبلوماسيون في قراءتهم لواقع الحياة السياسية في لبنان، فلم ير احد بعد انّ ما جرى يستدعي التراجع عن مسلسل الاحلام بالسيطرة والتعنت وتبادل التنازلات، من اجل توفير الظروف التي تسمح بلملمة الجروح والسعي الى النهوض مجدداً من مكان ما، لإعطاء المثل بإمكان تقويم ما هو قائم من اعوجاج، وقيادة البلاد على طريق الالف ميل نحو التعافي.
قد يعتقد البعض انّ في ما سبق نوعاً من النظريات والمعادلات السياسية، لكنها بالفعل هي في صلب القراءات الديبلوماسية المتشائمة في شأن مستقبل الوضع في لبنان. فكل الاقتراحات التي كانت تشكّل مدخلاً الى الحل انهارت واحدة بعد أخرى، فمضى الجميع في استنزاف خزينة الدولة بسياسة الاستدانة والتوظيف الانتخابي العشوائي وتحويل المؤسسات محميات سياسية وطائفية ومذهبية، وضعت الحواجز امام ما للدولة من حقوق وما على مواطنيها من واجبات. وزاد في الطين بلة، أن حكمت البلاد منظومة سياسية بنيت قواعدها على الصفقات المتبادلة والتسويات السياسية وتقاسم المغانم.
وإن كان تحميل الطبقة السياسية لوحدها مسؤولية ما جرى ليس منطقياً، فإنّ في الجانب الآخر مسؤولية مماثلة تُلقى على عاتق من كان يجب ان يقرأ في المؤشرات السلبية المحلية والدولية، ما يوجب القيام في شأنه ورفض الانصياع الى الطبقة السياسية. فعبّروا عن عجزهم المتمادي في تدارك ما هو متوقع على المستوى الاقتصادي والنقدي، وهو ما تبين في الاداء السيئ في وزارة المال ولجنة المال والموازنة النيابية وحاكمية مصرف لبنان وجمعية مصارف لبنان. فاستمرت في تغذية التسويات الداخلية على حساب المصلحة العامة. وهو ما دفع الى التعامي عن المؤشرات الخطيرة التي كانت تُنذر بما آلت اليه في شكل طبيعي وتلقائي، من دون ان ينصاع أحد الى ما حذّر منه الخبراء القلة الذين بقوا خارج أسوار المحميات السياسية والمالية ولوائح المستشارين.
وبناءً على ما تقدّم، وبمعزل عن كثير مما يتبادله الديبلوماسيون عقب مسلسل العقوبات الاميركية التي لم تنته بعد، من معلومات عن مظاهر الفساد والرشوة السياسية والمالية وحجم الثروات التي جُمعت في اكثر من قطاع بلا وجه حق، لا يرى الديبلوماسيون في أداء من كُلّفوا ادارة الملف الحكومي ما يشجّع على إمكان ولادة «حكومة المهمّة» في وقت قريب. وان افصح احدهم في صالون سياسي عمّا في جعبته من مخاوف مما هو آتٍ، فهو لم يرَ أنّ اياً منهم، من اعلى الهرم الى ادناه، قد فهم الرسالة بعد، بدليل انّهم ماضون في عملية تشكيل الحكومة بالطريقة القائمة منذ اكثر من اربعة اشهر، بلا مراعاة لنتائج العقوبات، وفي ظلّ الحصار الاقتصادي والمالي والديبلوماسي لمنظومة سياسية كاملة، لم تخرقه سوى المساعدات الانسانية التي فرضتها «نكبة المرفأ».
وختاماً ينتهي الديبلوماسيون الى التعبير عن إقتناع، بأنّه ليس على اللبنانيين انتظار اعلان لبنان دولة مارقة او فاشلة، فهي كذلك. وانّ المنقذ، بمن فيهم من يتولّى مهمة توليد حكومة تدين المنظومة السياسية وتحاكمها، وتجري التدقيق الجنائي إن اتخذ شكلاً آخر يتولاه البديل من شركة «ألفاريز أند مارسال»، لم يُعثر عليه بعد، بالتالي قد لا يكون «موجوداً» مخافة ان يُقال انّه «مفقود».