يتمّ التهويل بأنّ خفض «الاحتياطي الإلزامي» عن الـ 17.1 مليار دولار سيكون «الخسارة الكُبرى» للمودعين، هم الذين أهدر «المركزي» قرابة الـ 58 مليار دولار من أموالهم، عدا عن عشرات المليارات التي أهدرتها المصارف الخاصة. التذرع بمصلحة المودعين لوقف دعم السلع الأساسية نهائياً من دون أي خطة بديلة، يعني تدمير ما تبقى من مقومات معيشة لدى غالبية السكان. رغم ذلك، يتمسّك عدد من أعضاء المجلس المركزي في مصرف لبنان بخيار وقف الدعم، في دفاع واضح عن مصالح كبار المودعين
تعدّد «الروايات» التي تخرج من مصرف لبنان يبرّر «الشكّ» بكلّ ما يُعلن، فلا يُمكن إغفال أنّ سلامة بقي لأشهر «يُطمئن» اللبنانيين ورئيس حكومة تصريف الأعمال، حسّان دياب من أنّه «يُمكن صرف كلّ دولار في الاحتياط الإلزامي»، ليتم دفع استحقاقات سندات الدين بالعملات الأجنبية (يوروبوندز). وحين خابت جهوده، أطلق في آب الماضي، ولأول مرّة، تهديداته وبدأ التهويل بالتوقّف عن دعم السلع الرئيسية. ولكنّه في المقابل، استمر في دعم عملية إنعاش المصارف التجارية، فدفع عنها التزامات خارجية بحجّة أنّها ضرورية لديمومة العلاقة مع مصارف المراسلة، وسدّد ودائع استحقت أو طالب أصحابها باستردادها، وهذا أحد أهمّ أبواب النزف المُستمر في موجودات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية ــــ أي «التوظيفات الإلزامية».
إذاً، لدى سلامة دولارات لحماية المصارف، لكنّه يعتبر أنّ دعم المازوت والبنزين والدواء والسلّة الغذائية، «هدرٌ». فهل يجب تصديق الحاكم حين يقول إنّه «أفلس»، ولكن يُكمل في الوقت نفسه بالتوقيع على استثناءات ــــ مُكلفة ــــ لأصحاب المصارف؟ وهل يُمكن تصديقه حين ينفي الخبر الذي نشرته «رويترز» أول من أمس بأنّه «يدرس خفض مستوى احتياطي النقد الأجنبي الإلزامي من أجل مواصلة دعم واردات أساسية العام المقبل»؟
المعلومات المُسرّبة من اجتماع المجلس المركزي يوم الأربعاء، تنفي نفي سلامة، وتؤكّد معلومة «رويترز» وما نشرته «الأخبار» أمس، وتُضيف إليها بأنّ الاجتماع كان «عاصفاً» لاختلاف المقاربات بين الأعضاء، إلا أنّ ما يجمع الحاكم ونوابه الأربعة هو «اقتناعهم بضرورة التوقّف عن الدعم نهائياً وعدم المسّ بما تبقى من دولارات». البحث عن خفض نسبة الاحتياطي، ومنح سلامة مهلة أسبوع ليُقدّم كل واحد من أعضاء المجلس المركزي آلية جديدة للدعم، «أثار امتعاض وخوف النواب الأربعة، إلى درجة أنّ بعضهم لوّح بالاستقالة، خوفاً من اتهامهم بصرف أموال المودعين»، بحسب المعلومات. اللافت أنّ وسيم منصوري وسليم شاهين وبشير يقظان وألكسندر موراديان «عتلوا همّ» عدد من المودعين، ولم يهابوا جوع أكثر من 6 ملايين إنسان، كما لو أنّ الـ 17.1 مليار دولار ستُستخدم أصلاً لـ«ردّ» ودائع الناس. ولكن لنفترض أنّ الـ«نيّة» حاضرة: يحوي 21 ألف حساب في المصارف 50% من الودائع (بحسب أرقام لجنة الرقابة على المصارف في نهاية الـ 2019)، سينال هؤلاء 8 مليارات دولارات من الـ 17.1 مليار دولار، أي بمتوسط 405 آلاف دولار للحساب الواحد. الـ 50% الأخرى تعود إلى 2 مليون و700 ألف حساب (تراوح الحسابات ما بين أقل من 5 ملايين ليرة ومليار و500 مليون ليرة) سيحصل كلّ حساب على متوسط 3 آلاف و150 دولار أميركي. أما إذا حُصِرَت «الحِسبة» بالحسابات التي لا تتخطى قيمة وديعتها الـ 100 ألف دولار، فيُصبح المتوسط الذي يحصل عليه الحساب الواحد 810 دولارات من الـ 17.1 مليار دولار. يعني ذلك أنّ مُحاربة الدعم بحجّة «حماية الودائع» كلامٌ فارغ، لأنّ الأموال لم تعد موجودة ومن دون أدنى حساب لمصالح الناس. ما يتم محاولة إنقاذه، هو جزء من ودائع كبار المودعين حصراً. قد يعتبر البعض أنّ من «حقّ» هؤلاء استرجاع أموال «تعبوا» في جنيها… ولكن ليس بعد أن تكون باقي الطبقات قد «مُسحت» وأُفقرت.
مصرف لبنان، الرافض لخفض نسبة «التوظيفات الإلزامية»، لم يُقفل في بيان «النفي» الباب نهائياً أمام قراره. فقال إنّ «أي تخفيض لنِسَب الاحتياطي الإلزامي، لو حصل، سيعود إلى أصحاب الودائع في مصرف لبنان وهم أصحاب المصارف، وليس لأي غرض آخر»، فهل هذا تمهيد لـ«مُخطط بونزي» جديد يتمّ التحضير له، ليخرج «الاحتياطي» من مصرف لبنان إلى المصارف، ويعود إليه مع تقديم فوائد أعلى للمصارف مثلاً؟ الفائدة السنوية جرّاء التي تحصل عليها المصارف هذه التوظيفات تُقدّر بنحو 600 مليون دولار. بدأ الأمر في 20 أيلول 2001، حين أصدر سلامة التعميم الأساسي الرقم 7926، يُلزم فيه المصارف إيداع 15% من قيمة الودائع بالدولار لديه على شكل «توظيفات إلزامية». احتاج سلامة إلى «تعميم»، لأنّ قانون النقد والتسليف ينصّ حصراً على «احتياطي إلزامي بالليرة اللبنانية». تزامن التعميم مع استمرار «خطيئة» التسويق لضرورة الاستدانة بالدولار وإصدارات الدين بالعملات الأجنبية، في ظلّ مؤتمر «باريس 2». أُغريت المصارف بفوائد مرتفعة، حتّى وظّفت قرابة الـ 75 مليار دولار أميركي من مُجمل ودائع الناس لدى مصرف لبنان، ولم يبقَ منها سوى 17.9 ملياراً (إذا صحّت أرقام سلامة). أموال المودعين بُدِّدَت قبل الوصول إلى استخدام ما تبقى منها، جزئياً، لدعم بعض السلع. كلّ ما صُرف كان من «ودائع الناس»، فما الذي يُميّز الـ«17.1 ملياراً» حتى لا يُمكن المسّ بها، ولكن كان عادياً تبديد عشرات المليارات بكلّ قلّة مسؤولية؟ يأتي رياض سلامة ليُسقط مُبرّرات «قانونية» على إجراء هو اتخذه، ويُمكن في أي لحظة إيقاف مفاعيله.
سلامة ونوّابه الأربعة يفضّلون إلغاء الدعم عن السلع الأساسيّة
يقول خبير اقتصادي إنّ «مصالح المودعين مُقدسة، ولكن مصلحة 6 ملايين شخص يعيشون في لبنان يجب أن تكون فوق كلّ اعتبار. من هذا المُنطلق يجب أن تكون الخيارات المُتخذة».
الانهيار حصل، والإفلاس المصرفي بات واقعاً، والليرة فقدت قيمتها، والتضخم هو أسوأ ضريبة مفروضة على المواطنين «تفتك» بهم يوماً بعد آخر. هل يصحّ في هذه الحالة الاختيار بين استمرار الدعم وخفض نسبة «التوظيفات الإلزامية»؟ يُجيب الخبير الاقتصادي بأنّ «الأزمة لا يجوز أن تُدار بالبحث في استمرار الدعم أو التوقّف عن ذلك، بل بتحديد المخارج من الأزمة، ووضع خطة. يجب التأكّد من المبلغ المُتبقي، وترتيب الأولويات لإدارة عملية إنقاذ المُجتمع».
دعم السلع الرئيسية أخطر من أن يبقى ملفاً مُحتكراً من قبل مصرف لبنان. المسؤولية لا تقع حصراً عليه. فالدعم ــــ أولاً وأخيراً ــــ مسألة تتعلّق بالسياسة التي تُريد «الدولة» انتهاجها، وباستراتيجيتها لحماية طبقاتها الاجتماعية الهشّة. لم تكن الجهات الرسمية على قدر الواجب في مراقبة «الدعم». بقيت الأسعار ترتفع حتى للسلع المدعومة، وازدادت حدة الاحتكارات وتسلّط التجّار على المواطنين، فيما «الدولة» بكامل أجهزتها مُستقيلة من مهامها الرقابية. وعِوض أن تتخذ قراراً جريئاً بتوجيه الدعم نحو الطبقات الاجتماعية المُحتاجة إليه، حتى يكون عادلاً ويُحقّق هدفه، تغرق في الحسابات الشعبوية من دون أي خطة للخروج من الأزمة، كأن تتولّى هي استيراد المحروقات والدواء والقمح مُباشرةً. يعتقد الخبير الاقتصادي أنّ ترك القرار لدى سلامة يُعقّد الأزمة: «همّه ليس أرقام التوظيفات الإلزامية، بل تخفيض فاتورة الاستيراد أكثر فأكثر لوقف النزف بالعملات الأجنبية. من أجل النقد، يتم تجويع الناس من دون أي بديل إنتاجي يُقدّم لهم».