الرئيس الأميركي دونالد ترمب خالط الأوراق البارع (أ ف ب)
احتار صديقي في أمره، لقد سُجن بتهمة تأسيس حزب، وكانت العقوبة عند معمر القذافي القائد الليبي، الإعدام ما قد يُخفّف للمؤبد، حيرة الصديق مأتاها من أنه المتهم الوحيد في هذا الحزب، ثم مما زاد الطين بلّة، أن طُلب منه اختيار هوية الحزب بين شيوعي وإخواني، وفي الأخير حُكم عليه بالبراءة. ثم ضم إلى قسم البراءة بالسجن، حيث قضى أكثر من عقد من الزمان، وهو يسمع الحرس وإدارة السجن يرددون قسم البراءة، فأمسى كل السجناء يرددون هذه الكنية، على القسم الذي قضى فيه ردحاً من العمر، من دون أن تتبيّن دلالة كنيته: سجين البراءة.
خلط الأوراق، هذا يمكن أن يكون استراتيجية، تتمظهر كما تكتيك، جعلت من آل تونس يرددون عن الحال الليبية آنذاك وحتى الآن: تحب أن تفهم تدوخ. لقد نبّهني لحالنا تلك، الرئيس الأميركي دونالد ترمب خالط الأوراق البارع، لقد أراد أن يكون: من لا يتوقع فعله وردّ فعله وقبل ما سيقول، ثم إن قال أو فعل هل سيتراجع؟ ورأيت في هذا الأمر، أنها كما حقوق وطنية، حقوق الملكية الفكرية، فالسبق للعقيد الليبي!، في هذا الشأن. وزد على ذلك، أن اعتبرت هذا المشترك، لا يجعلنا في الهمّ شرقاً فقط، بل غرباً أيضاً.
يبدو خلط الأوراق استراتيجية قديمة، لكن ممارستها تغيب وتحضر، فتكون في الحال كما تكتيك، يمارسه بعض القادة عند اللحظة المأزومة، عندما يكون ليس ثمة حل مأمول في الأفق. لكن جوهر خلط الأوراق يكون استراتيجياً عند أمثال الديكتاتور الشرقي، كما عند الديكتاتور بالطريقة الأميركية في الألفية الثالثة، ففي الديمقراطية الأميركية تكون مكنة الديكتاتور: ما استطاع إليه سبيلاً، ومن هنا عبّر دونالد ترمب عن حسده لزعماء شرقيين كثيرين.
لم يكن ممكناً لـ”الترمبية”، إعادة إنتاج الخلط بالطريقة الليبية أو اللبنانية وغيرهما، إذ ممكن لزعماء لبنانيين متهمين بالفساد، أن يدينوا الفساد والمفسدين، وبإلحاح يؤكدون زعامتهم كمحاربين ضد الفساد، في وقت هم مسؤولون عن ازدهار الخراب في البلاد. كما في الجزائر عند خروج الرئيس المريض على الجماهير، إذ يظهر بجسده المعطل والفاقد الحياة، لكن باعتباره قلب الأمة النابض، فعقلها المفكر والمدير لزمام أمرها، هذا الرئيس يتمظهر كضد للناموس والناسوت. والغرابة ليست في ذلك، فتلك المرحلة تمت تصفيتها تحت دعاوى أن من كان يقود البلاد العصابة!، الغرابة إعادة إنتاج الفيلم ذاته، بالسيناريو ذاته، وحتى المخرج.
هذا قليل من كثير يبيّن أن خلط الأوراق، بأشكاله المختلفة وطرقه الفذة، يثبت أن مسألة الخلط الاستراتيجية، التي تهيمن على الحياة في أوقات عدة، لكنها في التوّ الوسم الرئيس، والبصمة المميزة حيثما ولّيتَ وجهك. ولذلك فإن ما أشيع عن غوبلز، من خلط أوراق تحت شعار: إكذب ثم إكذب حتى تصدّق نفسك، يتضح كم هو ضئيل مع المحدّث في العصر السيبراني.
في هذا العصر، الالتباس ليس التباساً مفهومياً أو حتى إجرائي، لكن يسيطر على مجمل التفاعل السيوسياسي، والمدهش أن قادة في المجتمعات الديمقراطية، باتوا جهاراً نهاراً يصوغون مشروعهم السياسي بـ”مبدأ خلط الأوراق”، مثلاً أنت لا تستطيع الإمساك بالغاية، التي يبتغيها الرئيس الفرنسي ماكرون، حين صرّح تلك التصريحات حول الإسلام، ثم عاد بغتة الإرهاب في صورة يدوية “سكين”، ثم رفع ماكرون من سقف مشروعه في مواجهة “التطرف الإسلامي”. لقد ظهر بشكل فج واستعراضي موقف ماكرون، فقيل عن ذاك في لغو إعلامي، حول أن الغاية عبارة عن وسيلة للفوز بالانتخابات. التقط أردوغان بهرولته المعتادة الخيط، واعتلى المنبر كسلطان، سلطان يستعيد أمجاد الإمبراطورية العثمانية الإسلامية، ودسّ مسألة عراكه حول ثروات شرق المتوسط، تحت رداء الذائد عن الرسول محمد نبي المسلمين.
خلط الأوراق اختلط عندي، لكن وفاة مارادونا الزعيم الكروي، من بات بطلاً بسرقة كروية جميلة ومميزة، ما شعاره إن أردتَ الفوز، فالبس جلباب الفائز أبداً. هذا ما نبّهني أن الخلط سمة شعبوية، وأحياناً تلبسها الجماعة الضد شعبوية التي تتخذ وسيلة شعبوية. فمثلاً ماكرون ضد ترمب لكن ثمة تماهٍ بينهما في الأسلوب: خلط الأوراق بحيث تلتبس المواقف، ما يحتّم الغايات، ويموّه الهدف الرئيس، فقد حيّر “الترمب” العالم، حتى اللحظة الأخيرة من رئاسته، وبهذا سرق العقول، كما مارادونا من كان على الأقل يُسلّي البشر.