كلّ اللبنانيين يراقبون حقيقة الموقف السعودي من مبادرة الرئيس سعد الحريري لتشكيل الحكومة. أسئلة كثيرة تطرح حول ما إذا كانت السعودية تدعم الحريري، ولا أحد يحصل على جواب. معلوم أنّ السياسة فنّ إطلاق الإشارات، لكن في لبنان هناك من لا يلتقط الإشارة، أو إذا ما التقطها يقاتل في سبيل تغييرها.
بين السعودية ولبنان علاقات ومحطات تاريخية، لم تصل إلى السوء الذي وصلت إليه هذه الأيام.
شكّل السقف السياسي الذي رفعه العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز، حدّاً لا يمكن لأحد تجاوزه في إطار مراقبته للملف اللبناني. ما بعد كلام الملك تبدّدت كلّ الرهانات التي ارتكزت إليها قوى سياسية تعتبر أنّ الولايات المتحدة الأميركية تغضّ الطرف عن مشاركة حزب الله في الحكومة، ليتبيّن فيما بعد أنّ هذا الأمر هو عقدة أساسية تتجاوز عقدة رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس التيار الوطني الحرّ جبران باسيل. ما قاله الملك السعودي أمام الأمم المتحدة، هو أنّ حزب الله حزب إرهابي لا بدّ من نزع سلاحه. تحت هذا السقف أطلق قبل أيام وزير الخارجية السعودي موقف بلاده معتبراً أنّ الأزمة اللبنانية تتجلّى في أنّ الدولة تغطّي الميليشيا.
الموقف الأميركي يتماهى إلى حدّ بعيد مع الموقف السعودي. وإذا ما كان بالإمكان خفض السقف الأميركي، فإن السقف السعودي غير قابل للانخفاض. بناء عليه، لا بدّ من قراءة التطوّرات في المنطقة، والتي تشير إلى أنّ الإدارة الأميركية برئاسة دونالد ترامب، ستستغل الفترة المتبقية امامها لتطبيق استراتيجيتها تجاه لبنان وإيران، بالتكافل والتضامن مع التوجّهات الخليجية، وخصوصاً السعودية والإماراتية. وأبعد من ذلك، تُجمع معطيات متقاطعة محلياً وخارجياً على أنّ الشروط الاقتصادية لن تنفرج حتّى ما بعد مجيء إدارة جو بايدن، لأن المسألة ترتبط بالاتفاق مع صندوق النقد الدولي. ولبنان غير قادر على إنجاز هذه الشروط.
لا بدّ من الإشارة إلى اهتمامات خليجية تسبق الملف اللبناني بالأولوية، وهذا يؤكد أنّ دول الخليج لن تندفع تجاه لبنان إلا إذا حصل شيء استثنائي يحفّزها على إعادة الاهتمام به. حاول الفرنسيون التواصل أكثر من مرة مع المسؤولين السعوديين، لكن الجواب السعودي كان واضحاً بأن لا اهتمام بالملف اللبناني، وبأنهم لا يريدون البحث في التطوّرات اللبنانية. لا الموقف السعودي سيتغيّر، ولا الموقف الأميركي حتى ما بعد مجيء جو بايدن، على حدّ قول السفيرة الأميركية في بيروت بمجلس خاص، معتبرة أنّ السياسة والإجراءات مسار لا يمكن الحياد عنه إلا بعد وقت طويل.
لطالما كان للمملكة العربية السعودية علاقة خاصة بلبنان منذ عهد الملك عبد العزيز، لجملة أسباب، أولها أنه مع بداية تأسيس الدولة السعودية، كانت سوريا مسرحاً للصراعات السوفياتية الأميركية، وكان لبنان مدخلاً أساسياً لحسم الصراع على سوريا. ولذلك، لطالما كان هناك شخص يمثّل المصالح السعودية في لبنان، أوّلهم الحاج حسين العويني، وثم الرئيس صائب سلام، ولم يكن هذا أمراً محصوراً بالسنّة، لأنّه في أحيان كثيرة كان الرجل الذي يمثّل المصالح السعودية كميل شمعون.
كبار السنّ من البيارتة يتذكّرون أنّه في ذروة الصراع الفيصلي الناصري، كانت صور جمال عبد الناصر ترفع في بيروت الغربية مع شعارات القومية العربية، وكانت الأشرفية ترفع صور الملك فيصل مع شعارات التضامن الإسلامي. وكما هو معروف أنّ رأس الحربة في مواجهة الفكرة القومية، هو كميل شمعون ووزير خارجيته شارل مالك.
حصلت تسوية أنتجت فيما بعد فؤاد شهاب. وبالعودة إلى لقاء الخيمة الشهير بين شهاب وعبد الناصر على حدود لبنان والجمهورية العربية المتحدة، كان رجل السعودية الأول في لبنان حسين العويني. وعند وفاة الملك عبد العزيز كما ورد في مذكرات سونيا فرنجية، أوصى أبناءه بالاهتمام بلبنان وتقدير مسيحييه. وكان الملك فيصل قد قال للرئيس سليمان فرنجية إنّ المملكة والعرب حريصون على أن يبقى رئيس لبنان مسيحياً، للتأكيد على قيم التنوّع في الحضارة العربية.
إثر النزاعات التي حصلت بين الدولة اللبنانية وبين الفلسطينيين، انحازت المملكة لمصلحة الدولة اللبنانية، وقدّمت هبة سخية جداً من الأسلحة للجيش اللبناني، بناء على طلب الرئيس سليمان فرنجية. الرئيس إلياس سركيس أجرى تغييراً معيّناً بتحويل منصب رئيس الحكومة إلى تكنوقراط، فجاء سليم الحص وبعده شفيق الوزان، ما أحدث خللاً في الشراكة الوطنية، وأدّى إلى نتيجتين، الأولى هي توطّد علاقة المملكة بالمفتي حسن خالد، والثانية أنّ السعودية بدأت تفكر بإنتاج زعيم جديد يحمل مصالح الدولة اللبنانية والعربية في بيروت. ومنذ ذلك الوقت، بدأ ظهور شخص اسمه رفيق الحريري، والذي مثّل السعودية بالإضافة إلى الأميرين سعود الفيصل وبندر بن سلطان في بذل الجهود لوقف الحرب. وهو ما أدّى إلى اتفاق الطائف.
الملك فهد بن عبد العزيز أبلغ الرئيس رينيه معوض أنّ السعودية ودول الخليج رصدت ميزانية مفتوحة لأجل إعادة إعمار لبنان وإخراجه من ويلات الحرب. في كلّ المراحل السابقة بما فيها حقبة الحريري، كان حضور السعودية حضوراً رئيسياً أو مباشراً، واستمرّ الحال على هذا الوضع فكانت النتيجة اغتيال معوّض.
في الفترة الشهابية، كانت الكلمة العليا لعبد الناصر، وبعدها أصبحت الكلمة لمنظمة التحرير الفلسطينية، وفيما بعد أصبحت لدى حافظ الأسد، ولكن كلّ شيء تغيّر عند اغتيال رفيق الحريري، ما اعتبر استهدافاً للسعودية لأنّه أقرب حلفائها. وسياسياً، كان هناك خوف من أن تكون الضربة إعلاناً عن مشروع التمدّد الإيراني في المنطقة، وتحديداً في لبنان عبر حزب الله.
بعد العام 2005، كان لا بدّ من تقسيم الوقائع إلى مجموعة مراحل:
– أوّلاً: العام 2005 حتى عام 2011، وهذه المرة الأولى التي يكون فيها للسعودية الكلمة العليا في لبنان، وكانت النتائج إيجابية، بحيث سجّلت أعلى معدلات النمو لبنان.
– ثانياً: انتصار حلفائها في الانتخابات النيابية مرّتين.
– ثالثاً: خروج القوات السورية من لبنان، والاعتراف السوري بدولة لبنان وحصول تبادل ديبلوماسي.
– رابعاً: قيام المحكمة الدولية.
– خامساً: دخول أعلى التدفقات النقدية إلى الداخل اللبناني.
الانقلاب في العام 2011 كان مربكاً جداً، بسبب الظروف المحيطة به، بحيث سبقه، مسعى دولي للتقارب مع بشار الأسد، الأمر الذي فهمه الأسد على أنّه فرصة للتمدّد وفعل ما فعله بشار ومن خلفه إيران.
ثم جاءت موجة الربيع العربي التي هدّدت دولة أهم بكثير بالنسبة إلى السعودية، وهي مصر. ومن الطبيعي أن يتراجع لبنان في سلّم الأولويات السعودي لأن هناك مناطق أخرى تمثّل خطورة على الأمن القومي السعودي، وهي مصر وسوريا واليمن.
حينها طرحت نظريتان، الأولى إيرانية ترتكز على أنّ التمكّن من لبنان يقود إلى الانتصار في سوريا. أما النظرية السعودية، فقالت إنّ التمكّن في سوريا يساوي الانتصار في الشرق الأوسط كله. وسارت النظريتان جنباً إلى جنب.
وعندما بدت النظرية السعودية أقرب إلى الانتظار، حصل التدخل الروسي الذي قلب الموازين. فكانت المشكلة الأساسية في تضعضع القواعد السعودية في لبنان. وبالتزامن، اشتعل حريق في حديقة السعودية الخلفية، وهو حريق اليمن، الذي استحوذ على كلّ الاهتمام.
في الخلاصة: السعودية لن تعود إلى لبنان إلا عندما يعود هو إلى نفسه، وذلك يصبّ في مصلحته أولاً لا في مصلحتها.