إيلي القصيفي -أساس ميديا
شهدت أوساط سياسيّة في اليومين الماضيين نقاشات للمقارنةً بين خطاب الرئيس ميشال عون عشية عيد الاستقلال وعظة البطريرك بشارة الراعي يوم العيد في 22 تشرين الثاني. مجرّد إجراء هذه المقارنة يقول الكثير، ليس لجهة إقامة تقابل أو تضادّ بين الخطابين وحسب، بل لناحية تجذّر المتغيّر المهمّ في المشهد السياسي منذ إعلان البطريرك في الخامس من تموز نداءه الثلاثي الداعي إلى فكّ أسر الشرعية، وتطبيق القرارات الدولية، وإعلان حياد لبنان.
مذّاك وبكركي محطّ الأنظار لا في لبنان وحسب، بل أبعد منه، وذلك لأنّ حركتها النوعية تعكس الواقع السياسي الجديد – لاسيّما في الوسط المسيحي – الذي رتّبه ضعف العهد وتزعزع ركائز حكمه. فلولا هذا الضعف لما كان البطريرك – الذي عُرف غالباً بدعمه لعون، وكان أكثر البطاركة زيارةً للقصر الجمهوري خلال النصف الأول من الولاية الرئاسية – تصدّى بهذه الوتيرة للمسائل السياسية إلى حدّ بدا انّه هو مركز الثقل السياسي المسيحي البديل من رئيس الجمهورية. بعدما ظهرت على الأخير أعطاب العهد بقوّة منذ 17 تشرين 2019، ثمّ بعد انفجار المرفأ في الرابع من آب، وأخيراً مع العقوبات الأميركية على النائب جبران باسيل.
في السياق ليس قليل الدلالة أن يأتي نداء الراعي في 5 تموز، بعد 10 أيّام على “الحوار الوطني” الذي أقامه عون في قصر بعبدا في 25 حزيران وقاطعه حينها أفرقاء أساسيون، ما كاد يجعله حواراً بين أطراف الفريق الواحد لولا الحضور (الشكلي) لسمير جعجع وتيمور جنبلاط. لقد أظهر فشل الحوار الرئاسي حينها تفاقم العزلة الداخلية لرئيس الجمهورية كأحد مظاهر أزمته، بل أزمة الجمهورية نفسها.
وللمفارقة، فإنّ عون قد دعا في خطاب الاستقلال إلى حوار وطني لمواكبة المتغيّرات الإقليمية والدولية، إلّا أنّ دعوته لم تلقَ أدنى تجاوب من الحلفاء والخصوم على السواء، حتّى إنّ فريق العهد نفسه لم يكترث لها كما لو أنّها لم تكن. وفي ذلك إشارة ضمنية من “داخل البيت” إلى ما آلت إليه أحوال العهد!
بالعودة إلى المقارنة بين خطابي الرئيس والبطريرك، فإنّه يجدر التوقّف من الناحية السياسيّة عند نقطتين:
الأولى نقطة الحكومة: أكّد الرئيس عون، بما لا يحتمل أيّ لبس، أنّه يمثّل طرفاً سياسيّاً في عملية تأليفها. فهو باتهامّه شريكه الدستوري هنا بـ”الاستقواء والتستّر بالمبادرات الإنقاذية للخروج عن القواعد والمعايير الواحدة (…)”، لم يظهر أيّ “تحسّس” من إمكان تأخّر ولادة الحكومة على الرغم من إلحاحيتها في ظلّ تسارع وتيرة الانهيار. أيّ أنّ الجنرال ظهر مرّة جديدة كجزء من الأزمة عوض أن يبدي في مناسبة كهذه إرادته، بصفته رئيساً للجمهورية، لإيجاد حلّ لها.
ما يؤكد قول النائب نهاد المشنوق في مقابلة الشهيرة مؤخراً أنّ رئاسة الجمهورية مقعد شاغر ليس بالشخص بل بالدور المطلوب من الرئاسة أن تؤديه.
في المقابل عبّر البطريرك الراعي عن المأزق الحقيقي الذي يعتري عمليّة تأليف الحكومة، وهو “العودة إلى نغمة الحصص والثلث المعطّل”. والقاصي والداني يعرفان أنّه لم تشكّل حكومةً منذ اتفاق الدوحة في العام 2008 إلّا وكان الثلث المعطّل فيها حصّة “حزب الله” وحلفائه!
ناهيك بأنّ الرئيس الذي كان عارض في فترة تشكيل حكومة مصطفى أديب، خصّ طائفة بعينها بحقيبة وزارية محدّدة أسقط معارضته تلك هذه المرّة، وكأنّ هذا التخصيص يمكن التسليم به، وفق الظرف السياسي، وبالتحديد ممّن أقسم اليمين على تطبيق الدستور، لاسيّما في ظلّ محاولة العهد ومنذ البداية تأويل المواد الدستورية التي تحكم عملية تأليف الحكومة بما يوسّع “دور” الرئيس فيها، وهذا يزيد المسؤولية على الرئيس وليس العكس.
النقطة السياسيّة الثانية: تتمثّل في السياسة الخارجية للدولة وتبعات هذه السياسة على مجمل الأوضاع اللبنانية. هنا أتت دعوة رئيس الجمهورية إلى حوار داخلي لمواكبة “المتغيّرات والتحوّلات السياسيّة الجذرية دولياً وإقليمياً”. فأكّدت غياب أيّ ثوابت في السياسة الخارجية للدولة، وأنّ هذه الخطوط متحرّكة بحسب الظروف.
بينما أوضح الراعي أنّ “استقلال لبنان لا يعني نهاية الانتدابِ الفرنسي فقط، بل خروج لبنان من سياسة المحاور إلى سياسة الحياد، فلا ينحاز تارةً إلى الشرق وطوراً إلى الغرب”. بذلك أكّد البطريرك على الثوابت المؤسّسة للسياسة الخارجية للدولة، بوصفها ثوابت متّصلة حكماً بالمصلحة السياسية والاقتصادية للبنان. وبذلك، دلّ البطريرك إلى أسباب الفالج المالي والاقتصادي الحالي كنتيجة لانحياز لبنان إلى محور دون غيره. هذا الانحياز عكسه موقف عون من المتغيّرات في المنطقة لاسيّما عند حديثه عن “قبول دول عربية بضياع القدس والجولان”، و”ارتفاع وتيرة الضغوط الأميركية”، وهو ما يُعدُّ مؤشّراً إضافياً إلى تصلّب موقف العهد من الإدارة الأميركية الآفلة بعد العقوبات على باسيل.
السؤال: ما هي فرص نجاح الحوار الذي دعا إليه رئيس الجمهورية، ما دام هو نفسه، وعلى الرغم من كونه راعي الحوار، قد استبق انعقاده بإطلاق مواقف تعبّر عن سياسة محور بعينه؟ كذلك، أليس رفع مستوى مشاركة لبنان في مؤتمر النازحين الذي نظمته روسيا في دمشق في 11 تشرين الثاني تعبيراً واضحاً عن التموضع السياسي للعهد؟
في المحصّلة، لقد عكس خطاب رئيس الجمهورية في الذكرى السابعة والسبعين للاستقلال حالة عدم اليقين التي تظلّل الجمهورية مع بلوغ الأزمة مستويات خطيرة، وهي مرشّحة للتفاقم بينما الفراغ الحكومي مستحكم والعهد مهموم بالردّ على العقوبات على باسيل. وهو ما دفع أوساطاً سياسية إلى السؤال عن هدف عون من التوجّه في خطابه إلى المؤسسة العسكرية دون سائر المؤسسات، فهل هذا تحضير لإمكان تسلّمها مهمّة “سياسية” في المرحلة المقبلة؟
كلّ ذلك يوجّه الأنظار أكثر إلى بكركي، فكلّما ضَعُفَ العهد، يصبح الاهتمام بموقفها أقوى!