لغز السلاح في يد العامل السوري بشري تقرأ في سيناريوات الإرهاب… هل من يضمر شراً بها؟
لسعة باردة تنتاب الذاهب الى بشري لا تلبث أن تشتدّ تحت تأثير ارتفاع المدينة 1500 متر عن سطح البحر. بشري هادئة كثيراً. وكأنها تحت تأثير “تروما” الجريمة. لا شبان يهتفون ضد “كل السوريين”، ولا حرائق تشتعل في “أبدان كل السوريين” كما تناقلت الفيديوات ليل الجريمة، ولا شعارات من نوع “الموت لسوريا”، بل هناك حزن شديد ودموع رجال معلقة بين الأهداب ودموع نساء تنزل شلالات لوعة، وصوت هدى، الأم الثكلى، وهي تعصر بين أضلعها صورة يوسف، زوزو، وتخبره بحالِها وتتمنى كل الأمهات، في كل لبنان، ألا يقفن فوق نعش فلذة كبد كما حالها. مشهد أم زوزو يُبكي حتى الحجر.
عنصرا درك عند مفرق البيت. وعناصر أمنية تنتشر قرب سرايا بشري تشي بنارٍ كادت تستعر تحت الرماد. رياض طوق، الزميل وابن المدينة وقريب الضحية، حاضر في كل التفاصيل من أجل تقديم الدعم المعنوي الى آل طوق والدعم الميداني الى الصحافيين الذين تهافتوا بحثاً عن حدث. لكن “لا هرج ولا مرج” بل حقيقة لا تلبث أن تنقشع فحواها أن الحكماء في المدينة استطاعوا أن يكبتوا “فورة دم” الشباب بعد ثلاثين دقيقة من موجة الغضب. وأن ما شاهدناه من حرق خيم، ونقلته بعض محطات التلفزة، غير حقيقي بل أفلام مفبركة انتشرت بفعل فاعل. فلا خيم للسوريين في المدينة بل هناك سوريون يساعدون في زراعة الأراضي ومعظمهم لا يزال هناك، فوق، في بشري، في المدينة التي تعرف تماماً كيف تفرق بين مجرم وابن ملة غير مجرم. هذه هي بشري.
ورق الأشجار ملوّن بألوان قوس قزح في مدينة آية في الجمال وفي الخصال. البلدية أقفلت أبوابها باكراً. ورئيسها فريدي كيروز عقد اجتماعات متتالية فهل توصّل الى معلومات حاسمة؟ يجيب: “تداعيات الجريمة ليست واضحة. لكن، ما أخاف البلدية، كما كل الأهالي والفاعليات، هو وجود سلاح في يد عامل سوري وثقوا به عشر سنوات. وهذا الأمر سيجعلهم يعيدون كل الحسابات. فمن أين أتى به؟ خصوصاً أن المجرم محمد “مكفول” ووضعه قانوني. ويعمل كي يعيش ويأكل. فلماذا حاز على سلاح من صنع تركي؟ وماذا لو كان في حوزة سواه من السوريين أسلحة على أنواعها؟ لا شيء يمنع ما دام من وثقوا به حمل سلاحاً وأطلق منه أربع رصاصات في صدر وقلب وكتف ابن بشري الآدمي.
نقصد بيت الضحية. مزار يضم ثلاثة قديسين ونبع مياه وزقاق تتفرع منه بيوت مبعثرة لعائلة واحدة، أولاد العمّ، بيت طوق. الأسود الحالك يسيطر على كل التفاصيل، على لباس النسوة، وعلى القلوب، وفي عيني الوالد عارف طوق اللتين تحولتا إلى جمرتين مشتعلتين. الى هنا يتقاطر الرجال لتقديم التعازي في ظل سكون هائل. وتحت البيت هناك بيت تحتشد فيه النسوة حول الوالدة الملتاعة. ننظر في وجه الوالدة فنراها كما المالك الحزين، ذاك الطائر العجيب الذي يغني وهو ينزف. نسمعها تغني لولدها وترقص بصورته، كما العريس، تقبله حيناً وتسأله أحياناً: شو صار معك يا زوزو؟ وتخبره: منعوني من رؤيتك ممدداً مضرجاً بدمك. ثم تعود لتطلب منه برجاء: “قوم يا قلبي يا مالي ورسمالي”، وهي تضرب على صدرها. يتجه نحوها شاب غاضب يبكي مثل الطفل فتهمس في أذنه “الغضب سلاح الجبناء. أنتم أصدقاء زوزو أقوياء شجعان. أنتم ولاد بشري لا تنهزمون”. يا لقوة هذه المرأة.
ختم مسكن القاتل بالشمع الأحمر
لكن، لماذا قرر المجرم أن يُنهي حياة زوزو؟ شقيقته ميرا مضى على آخر مرة رأته فيها شهر بسبب “كورونا”. هي متزوجة وزوجها من راس بعلبك. أما شقيقه الأصغر فنزل الى مستشفى طرابلس الحكومي ليُرافق شقيقه من هناك الى كنيسة السيدة، حيث سيُدفن اليوم، ويرقد الى الأبد. في حين تُردد بنات عمه خصاله “كان آدميا”. تمسح إحداهن، وتدعى جيهان، دموعها وتخبر: “لم يقبل يوم زفافي إلا أن يطرش البيت بنفسِهِ ويقيم لي أجمل عرس. وهو يفرح حين يرى فرح أطفالي. يجلب لهم الشوكولا ويجلب للمجرم (العامل السوري) أيضا شوكولا. نحن أدخلنا من قتل حبيبنا الى بيوتنا و”طعميناه” من راس الطنجرة واعتبرناه واحداً منا. وثقنا به. نحن نثق بالناس وهذا أحد أخطاء أهالي بشري”.
نعود لنسأل: لماذا قتل المجرم زوزو؟
يحاول شباب بشري التوصل الى جواب. يحاولون قراءة كل السيناريوات التي قد توصلهم الى أجوبة. قُتل الضحية على الطريق المؤدية الى الأرز. هناك، قبالة مشروع شاليهات، توجد طريق فرعية تؤدي الى فيلا ومزارع وأراضٍ يملكها آل طوق. ويملك يوسف قطعة أرض كان يريد البارحة صب أرضها بالباطون لبناء منزله الخاص. لكن، ثمة نار أشعلها المجرم في أشجار خضراء نضرة في المزارع، بدليل أنها استمرت مشتعلة حتى اللحظة (بعد 24 ساعة على تنفيذ الجريمة)، وقد تكون هذه النيران قد دفعت الضحية الى سؤاله عما يفعل فقتله. محرك سيارته كان لا يزال يعمل بعد وفاته. ما يعني أنه ترك محركه مشغلاً ونزل ليتكلم معه لكن المجرم أرداه. ماذا حصل بينهما؟ لا أحد يعرف. لكن، كما دل الطب الجنائي أن أربع رصاصات اخترقت جسده وهو حاول أن يزحف نحو سيارته، بدليل آثار الدماء على الزفت، لكن احدى الرصاصات اخترقت قلبه فمات.
هناك، حيث حصلت الجريمة، هدوء مزعج ثقيل مميت. دخان الحريق لا يزال يتسرب. والغرفة المجاورة التي يسكن (أو كان يسكن) فيها المجرم مختومة بالشمع الأحمر. وبعبارة: تمّ ختمها بناء لإشارة قاضي التحقيق الأول في الشمال القاضي سمرندا نصار. كلسات المجرم السوداء منشورة على الدرج. ومنقل فحم في الجوار. وأشجار شوح وصنوبر وسنديان ومنظر كان “يشق القلب” قبل أن أدماه.
لماذا فعل المجرم ما فعله؟ لماذا قتل ابن بشري؟ لماذا كان يحمل أساساً مسدساً؟
تحمل صورة ولدها (تصوير رمزي الحاج)
نائب بشري جوزيف اسحاق حزين جداً لما أصاب ابن مدينته غدراً ويقول: “المصيبة الكبرى أنه كان يحمل السلاح، وهذا أمر غير طبيعي، لهذا طلبنا من كل الأجهزة أن تبحث عن الأسلحة في كل مكان. فالأمر بات خطيراً”. وماذا عن عدد السوريين في المدينة والقضاء؟ يجيب اسحاق: “هناك نحو 2000 عامل سوري في كل قضاء بشري. ويستطرد: نحن طالبنا منذ خمسة اعوام بإقامة مراكز تجمع للسوريين اللاجئين على الحدود اللبنانية – السورية لجهة سوريا وذلك تحت حماية دولية. فليس منطقياً انتشار اللاجئين السوريين في كل مكان. وهذا أصبح اليوم ملحاً خصوصاً بعد أن تبيّن حصولهم من جهة ما على السلاح”.
السلاح الذي كان في أيدي المجرم هو بيت القصيد. فهل ما حصل في بشري أفشى خلية ما كانت تعدّ أسوة بما حصل في كفتون وفي وادي خالد؟ هل هناك بالفعل من كان يتربص ببشري شراً؟
لا أبعاد لهذا السؤال، لكن الإجابة عليه ضرورية، خصوصاً أنه ظهر في مدينة يعرف القاصي والداني عمقها السياسي. بشري استقبلت إبنها البارحة بألم هائل شديد. وهناك من استخدم ردات الفعل أول البارحة لأهداف خاصة بدليل الفيديوات المبركة وصورة السوريين الهاربين في مركبة، في آخر الليل، وهي صورة قديمة مأخوذة من منطقة غير بشري. وكأن هناك من أراد أن يأخذ المدينة الى مكان آخر. هل يعني هذا الكلام أن بشري لم تطرد السوريين؟ شباب بشري تحركوا بعدما علموا بموت يوسف عارف طوق في ردة فعل طبيعية عشوائية غير منظمة، فابن مدينتهم لم يمت بحادث سيارة، لكن الحكماء في المدينة أوقفوهم. وإذا كان بعض السوريين قد غادروا فلخوفهم الطبيعي مما فعله ابن ملتهم. لكن، الأكيد، أنه لم يصر الى طرد ممنهج. هذا لا يعني طبعاً أن أبناء وبنات بشري سيقبلون أن تعود الأمور كما كانت. فإذا كان المجرم قد حمل سلاحاً فهناك سواه قد يكونون حازوا أيضاً على السلاح في بلد أصبح “فلتاناً” وتُركب فيه سيناريوات.
في منزل الضحية صور للقديسين. صورة سانت تريز معلقة على الحائط مذيلة بكتابة: إمطري علينا ورود السماء. ووالده كان حين توفي زوزو ساجداً أمام القربان المقدس. بيت عارف طوق كما الكثير من بيوت بشري تنبعث منها رائحة الخير والقداسة. والمأساة لم يكن يتوقعها أحد. فلماذا حدث ما حدث؟ من شجع القاتل على حمل السلاح؟ هل هناك من يريد أن يستخدم اللاجئين السوريين كمرتزقة حيث هم؟ أقل مسدس ثمنه عشرة ملايين ليرة لبنانية، فهل لعامل سوري يعمل بـ”الفعالة” أن يجمع عشرة ملايين ليشتري به سلاحاً؟ إشاعات كثيرة بدأت تصدر بينها أن في الجريمة أبعاد “شرف” لكن المجرم غير متزوج. وهناك من قال إن المسدس قد يكون للضحية لكن المجرم اعترف أنه له. كل هذه التكهنات والتحليلات تنتهي عند سماع صوت الوالدة تصرخ “يا عدرا دخيل إجريكِ ليش ما استلقيتيه”.
عم الضحية يقول كلمتين ليس لهما ثالثة: “نريد معرفة من أين أتى بهذا السلاح. ولم نعد نريد “قنابل موقوتة” بين بيوتنا”.
لا أحد يستطيع أن يجزم بأبعاد الجريمة حالياً لكن ما تعرفه بشري أن البلد راكد على بارود. وأن لا أحد استطاع تركيعها أو قتل أحد أبنائها بهذه الطريقة حتى أيام الإحتلال السوري. لذا ضُرب، مع قتل ابنها، عنفوانها الذي لم يتجرأ أحد عليه. وهي لن تقبل بذلك اليوم.
اليوم تلتقي بشري في وداع يوسف عارف طوق. الوداع صعب. والقلق من الآتي يجعلها تلح على الدولة بأن تكون عينها عشرة عشرة على البلدات. ويقول رئيس بلدية بشري “هناك 994 سورياً في مدينة بشري والأرز، بينهم 560 طفلاً، يعني هناك عائلات في المدينة. غير أن الخوف أن تكون هناك كلمة سر ما قد صدرت تؤدي الى فلتان والى فوضى والى ما لن تحمد عقباه. لهذا طلبت البلدية من كل سوري وضعه غير قانوني الإخلاء فوراََ.
هل انتهت القضية في بشري مع قتل يوسف طوق أم بدأت مع حدوث الجريمة. فلننتظر التحقيق على أمل ألّا نسمع أن التحقيق لا يزال سارياً.