قد يكون تعيين مدير للمخابرات أمراً عادياً في أي جيش. في لبنان كل ما يتعلق بقيادة الجيش يصبح له منحى آخر، وحسابات سياسية تتقاطع أيضاً مع بدء السنة الخامسة من عهد رئيس الجمهورية. لذا تصبح لأي خطوة عسكرية مدلولات تتعلّق بالرئاسيات
رسمياً، طُويت أسئلة مثل لماذا رُفض التمديد لمنصور، ولماذا اختير قهوجي لا المرشحون الآخرون، بصرف النظر عن كفاءة كلّ منهم، وعما إذا كانت سنّه تؤهله لتولي هذا المنصب، علماً أن تعيين عمداء لهذا المنصب لم يكن معمولاً به قبل الطائف، بل كان يتولاه ضباط برتب أدنى (جوني عبدو وغابي لحود كانا ملازمين حين تولى كل منهما المديرية). لكن تفاعلات الاختيار ورفض التمديد ستبقى قائمة في السنتين المقبلتين على الأقل، نظراً إلى طبيعة المرحلة المقبلة التي تعني عملياً بداية العدّ العكسي لانتخابات الرئاسة أو الفراغ الرئاسي الذي بات عادة لبنانية. لأن التبعات السياسية هي أولاً وآخراً محور كل ما جرى قبل أسابيع وسيبقى قائماً.
رهان خاطئ على ذبذبة في الجيش
من غير المُجدي القول بأن التحالف قد فُكّ بين قيادة الجيش ومديرية المخابرات، بمجرد عدم التمديد لمنصور. في الجيش تراتبية ورأس هرم واحد، هو قائد الجيش، بصرف النظر عمّن هو ومن هو فريقه الخاص، وهل يتمتع بإدارة حسنة وكفاءة أم لا. صحيح أن خيار قائد الجيش هو التمديد لمنصور، لكنه هو من وضع لائحة أسماء مرشحي خلافته وفق تراتبيات ومعايير معيّنة، ولم يكن ممكناً اختيار أي ضابط من غير اللائحة، حتى لو اقتضى الأمر التشاور مع رئيس الجمهورية. ومن يعرف تركيبة مديرية المخابرات يعرف أيضاً أن هامش حرية مديرها كبير، ولكنّه أيضاً يقف عند حدود العلاقة مع القيادة والتوقيع الأخير الذي يملكه قائد الجيش. ومن يعرف قهوجي يعرف أيضاً مدى أهليّته وكفاءته وانضباطه وخبرته التقنية في المديرية في ظل أكثر من مدير، وسيكون مخطئاً أيضاً من يراهن على أنه سيشكل حالة منفصلة عن قيادة الجيش، ولأنه أيضاً ابن المؤسسة والمديرية ويعرف تماماً كل ما أحاط بها في السنوات الأخيرة. واختيار رئيس الجمهورية العماد ميشال عون له، وعلاقته به، ليسا نقطة ضعف بل العكس تماماً، وستعكس الأشهر المقبلة ذلك.
ثانياً، لم يكن اختيار منصور قبل أربع سنوات لمديرية المخابرات، مفاجئاً لا لعارفيه ولا لضباط رافقوه منذ التسعينيات ولا للعاملين معه في المديرية. هو ليس ابن المؤسسة بالمعنى الفعلي فحسب، إنما أيضاً ابن المديرية التي قضى فيها معظم سنوات خدمته، مع أسلافه العمداء جورج خوري وإدمون فاضل وكميل ضاهر. وهو هنا يلتقي مع اختلاف المهام والرتب وسنوات الخبرة والأقدمية، مع قهوجي. ومنصور الذي قضى منذ التسعينيات خدمة لا شائبة فيها، اختاره قائد الجيش بالتوافق التام مع رئيس الجمهورية وخلافاً لرغبة كثر من المحيطين بالأخير، من عائلته ومن خارجها الذين كانوا يريدون مديراً أكثر طواعية، وأقل التصاقاً وتضامناً مع قائد الجيش. وهنا يكمن أحد أسباب رفض التمديد ليس لأسباب قانونية أو مبدئية يتمسك بها رئيس الجمهورية، الذي مدّد لحاكم مصرف لبنان رياض سلامة ولرئيس مكتب المعلومات في الأمن العام العميد منح صوايا.
تشكل مديرية المخابرات عادة الذراع السياسية لأي رئيس للجمهورية، وهي تمكّنت مع قيادة الجيش من أن تشكل مظلة حماية له، ليس قبل الحرب، بل بعدها، وفي ظل الوجود السوري (رغم تغيّر طبيعة مهامها) وصولاً إلى المرحلة التي تلت خروج الجيش السوري. حين انتُخب عون رئيساً، بعد مرحلة فراغ رئاسي، كان هدفه الأول تطبيق رغبته المزمنة بالإطاحة بقائد الجيش العماد جان قهوجي الذي كانت مُدّدت ولايته، وكان يشكل منافسة رئاسية قوية له، مثله مثل مدير المخابرات إدمون فاضل الذي كانت العين الأميركية ساهرة عليه. جاهر عون مرات عدة برفضه التمديد لقهوجي وبرغبته باختيار قائد للجيش ومدير مخابرات مقرّبين منه. طرح العميد شامل روكز لدى بعض الأوساط العونية، وليس التيار في حد ذاته، قبل أن يحال الأخير على التقاعد، قبل انتخاب عون. لكن التيار كقيادة لم يكن مؤيداً، كما لم يكن مؤيداً لاختيار جوزف عون ومنصور. في هذه النقطة، فضّل رئيس الجمهورية مصلحة المؤسسة، باختيار ضابطين يعرفهما ويعرف خبرتهما وعملهما جيداً منذ أن كان قائداً للجيش. إصرار عون قوبل بتدخل سياسي لدى التيار لعدم عرقلة التعيينات، وبدأت مرحلة جديدة من محاولات تنسيق رافقتها تدريجاً حملة تطويق داخلية، سواء من داخل القصر الجمهوري أو عبر وزارة الدفاع، مع سعي مستشارين أمنيين ووزراء أو رئاسة التيار، إلى فرض إيقاع جديد، مواربة من غير المرور بقيادة الجيش أو مديرية المخابرات. هذا التدخل ظل خجولاً في البدايات. لأن الحاجة إلى الاستقرار وإعطاء صورة ناصعة للعهد في أول شهور حكمه ظلت طاغية، تصاحبها فرحة جوٍّ عونيّ عسكريّ ما، باستعادة النفوذ من بعبدا إلى اليرزة، للمرة الأولى منذ التسعينيات.
كان حضور رئيس الجمهورية قوياً في اليرزة، يحضر مناسبات ويطل في زيارات يستعيد فيها دوره قائداً أعلى للقوات المسلحة. قمة التنسيق كانت معركة فجر الجرود، وملف مكافة الإرهاب. هذا الإنجاز الحقيقي للعهد، وقد قدّمته له قيادة الجيش ومديرية المخابرات، حين أتى إلى مقر العمليات معلناً بدء المعركة. هذا الإنجاز الذي تعتدّ به المؤسسة العسكرية، لم يكن معزولاً عن مسار وضعته مديرية المخابرات منذ أربع سنوات لمحاربة التنظيمات الإرهابية. أي لقاء مع المديرية كان يبدأ وينتهي بملف الإرهاب والموقوفين والشبكات المفكّكة. وسجلّ المديرية بشأن الإنجاز، يعني عملياً على الأرض وليس على الورق، أن هناك جهداً عسكرياً ومخابراتياً، وعلى أساسه يكمن تعزيز مواردها وخبراتها. هنا يدخل الدور الأميركي. الجيش يفنّد الدعم الأميركي منذ الاستقلال إلى اليوم، ما خلا مرحلة الوجود السوري، حيث تراجع كمساعدات وهبات، لكن ظلت الروابط قائمة. بعد عام 2005، ارتفع مستوى التنسيق، من مساعدات عينية ودورات تدريب وأسلحة، واتخذ أهمية كبرى، بعد الحرب في سوريا وتصاعد العمليات الإرهابية ومع معركة الجرود وبعدها لتفكيك خلايا وتبادل معلومات. وما تقرّره الإدارة الأميركية بشقَّيها السياسي والعسكري، يصل إلى الجيش عينياً، بحسب المتطلبات والحاجات، لدى الأجهزة والفروع من دون استثناء، وكلها بمعرفة السلطات السياسية كافة التي توافق عليها، (ويخطئ من يعتقد أن حزب الله لا يعرف كل ذلك)، وإن كانت أحياناً تعطي موافقة عامة من دون الدخول في تفاصيل التفاصيل. كذلك الأمر بالنسبة إلى كل ما يُنفذ من أعمال على الحدود مع سوريا. كل شيء يمر عبر موافقة السلطات الرسمية ومعرفة القيادة العسكرية «وحدها» بكل ما يجري ويرتبط مباشرة بغرفة العمليات، بعد مروره بغرفة عمليات الأفواج المكلّفة مسك الحدود. هذا يعني أن هذا التنسيق كان وسيبقى، ما لم تتخذ السلطات السياسية قراراً في اتجاه آخر، وهو هنا لا يتعلق بأدوار وأشخاص، بل بدورات وهبات ومساعدات ساهمت في تعزيز خبرات الجيش أمنياً وعسكرياً واستخباراتياً. وهذا يؤدي بطبيعة الحال إلى شبك علاقات أميركية مع الجيش، والمخابرات جزء أساسي منه. لمّح الأميركيون إلى خيار بقاء مدير المخابرات في منصبه، الذي صودف أيضاً مع العقوبات الأميركية على رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل، ما استنفر العصبيات وجعل رفض التمديد أمراً طبيعياً أيضاً. من دون أن يعني ذلك أن التنسيق الأميركي لن يكون على المستوى نفسه مع المدير الجديد. من الوهم اعتبار غير ذلك.
من فجر الجرود إلى قبرشمون والتظاهرات
لم يدم شهر العسل بين القصر الجمهوري والتيار الوطني والجيش. في الظاهر الانفصال وقع في 17 تشرين الأول، مع بدء التظاهرات وإحجام الجيش عن الضرب بقوة، وإن استخدمها أحياناً لتفريق التظاهرات ومنع قطع الطرق. أما الحقيقة فهي أنه بدأ قبل ذلك، منذ الانتخابات النيابية وقبل حادثة قبرشمون وبعدها حين كثر الكلام في الكواليس عن انتقاد قائد الجيش وأدائه وعن ضرورة تغيير مدير المخابرات وطرح أسماء لخلافته. هناك فرق بين أن تكون المخابرات أو الجيش أداة رئيس الجمهورية أو أن يكونا أداة حزبه وتياره. رئيس الجمهورية في أحيان كثيرة كان يميز بين الأمرين، لأنه خارج من رحم هذه المؤسسة. لكن أحيانا كانت الغلبة لفريقه السياسي، الذي أراد تعزيز وجوده داخل الجيش كما داخل الوزارات والإدارات التي تولاها. ورغم أن ذلك لم ينجح حين تولّى وزراء له وزارة الدفاع، لا بالعكس زادت العلاقة سوءاً، بقيت محاولات تذكية التوتر عبر طلبات محددة.قد يكون أحد المنعطفات الأساسية في عمل المديرية أنها صبّت جهدها على الشق الأمني، مقدمة إياه على الشق السياسي. خطأ من؟ الواضح كان منذ اللحظة الأولى أن القصر الجمهوري يُبدي ارتياحاً أكثر لتسليم الأمن العام الشق السياسي – الأمني. لم يكن سراً أن اللواء عباس إبراهيم برع في استخدام إمكانات وُضعت بين يديه محلياً ودولياً، وكان المرجع الذي يوكل إليه رئيس الجمهورية معالجة ملفات داخلية وخارجية، علماً أن هذا الدور كان من مهمة مدير المخابرات في العهود السابقة. تجربتا جورج خوري وإدمون فاضل، كأحدث تجربتين، بارزتان في هذا المجال. أقام الأول، متفوقاً على قائد الجيش آنذاك ميشال سليمان، والثاني ولا سيما بعد التمديد له مرتين، بالتنسيق مع قائد الجيش جان قهوجي، شبكة علاقات سياسية محلية واسعة وإقليمية ودولية، وبالأخص أميركياً. ولعبا فيها أدواراً ولا سيما في مفاصل أساسية من نهر البارد إلى 7 أيار إلى اتفاق الدوحة وانتخاب الرئيس ميشال سليمان، ومن ثم الفراغ الرئاسي وعرسال وغيرها من محطات أساسية أمنية وسياسية. هذا لم يتح لمديرية المخابرات في العهد الحالي. لم يدخل الجيش في مقاربات سياسية حتى في أمور تتعلق به، كمثل الإشكالات التي وقعت مع الرئيس نبيه بري حول مرسوم ما سمي «ضباط دورة عون»، الأمر الذي استلزم وقتاً لحلها.
الرئاسيات وراء كل مفترق
عديدة هي أسباب الالتباس في العلاقة بين اليرزة وبعبدا. أولاً، لأن الدور أعطي للأمن العام؛ وثانياً، لأن المديرية تعاملت مع الشق الأمني بوصفه أولوية، مع التذكير بأنه منذ أربع سنوات، لم يتمكن الجيش من التقاط أنفاسه بفعل توالي الأحداث والمهمات؛ وثالثاً لأن شبح الرئاسيات أيضاً ظل يتحكم بالعلاقة منذ اللحظة الأولى بين القصر واليرزة. وهنا لبّ المشكلة.
اعتاد الموارنة الذين يصلون إلى مراكز الفئة الأولى أن يصبحوا مرشحين لرئاسة الجمهورية. وتجربة قادة الجيش مع القصر الجمهوري هي التجربة الأكثر حضوراً، منذ ميشال عون أولاً، وثانياً مروراً بالرئيسين إميل لحود وميشال سليمان. العماد جان قهوجي كان مرشحاً للرئاسة، وقد يكون الفراغ الرئاسي لعب أيضاً دوراً في تزكيته. كان لدى الرئيس ميشال عون منذ اللحظة الأولى مرشح أول ونهائي ولا يرضى عنه أي بديل حتى لو جاء من قلب البيت. وهذا يعني أن أي محاولة تعويم اليرزة في السنتين الأخيرتين ليست مستحبّة. لكن العقوبات الأميركية قلبت أيضاً كل الموازين. وإن كان من المبكر الحكم على نتائجها النهائية، إلا أنها في لحظة حساسة، فرملت اندفاعة رئيس التيار. إحالة مدير المخابرات على التقاعد، قانونية وطبيعية، علماً أنه سبقتها حملات سياسية من جانب واحد ضده، لكنها أيضاً تحمل رسالة واضحة. وهذا لا يعني أن الذين يزكون أميركياً خيار قائد الجيش مرشحاً رئاسياً، تراجعوا. هناك معلومات تقول العكس. ورغم أن قائد الجيش يقول إنه ليس مرشحاً، هناك مستشارون رئاسيون سابقون يتهيأون ويضعون الأفكار لمواكبة قائد الجيش بخلفية إعداده سياسياً. وهذا يعني أن معركة الرئاسة فُتحت مبكراً، وقد نكون نشهد حالياً أول خطوة لوضع الانتخابات الرئاسية على الطريق بين اليرزة وبعبدا. ومعركة الترشيحات المبكرة ليست انتقاصاً من موقع رئيس الجمهورية الذي ولّت أيام التنافس عليه حصراً بين مرشحين من اليرزة، لتصبح المنافسة مفتوحة بين مجموعة مرشحين دخلوا السباق الرئاسي باكراً.