اتفاق السلام الإماراتي ــــ الإسرائيلي ليس «خياراً» إماراتياً فحسب، بل هو شراكة استراتيجية تُريدها الدولة الخليجية قاطرة لفرض التطبيع على كلّ الدول العربية، ولهذا السبب يوليه «الغرب» أهمية خاصة. ما بَنته الإمارات والعدّو، لا يُقارن بأي اتفاقية سلام أو تعاون أخرى، لذلك تتعاظم مخاطره، أهمّها على اللبنانيين العاملين في الإمارات وقد يُجبرون على التعاون مع إسرائيليين. كيف سيتعامل لبنان معهم؟
بدّقة، تصف الكتبي ــــ المُهلّلة لخطوة بلادها ــــ «خطورة» اتفاقية التطبيع الإماراتية ــــ الصهيونية. هي ليس مُجرّد «اتفاق سلام» بين دولتين لم تشهدا أصلاً أي نزاع، بل «مفتاح» يُراد منه الولوج صوب ذاك الشرق الأوسط الجديد، الذي أُفشِلت محاولات فرضه في محطّات سابقة، كحرب تموز 2006.
ما بين الإمارات العربية و«إسرائيل» علاقةٌ و«عقد عمل» لا مثيل لهما، إن كان في مصر والأردن وقطر وعُمان، أو بقية الدول العربية التي تربطها بالعدو علاقات واتفاقات.
«الإماراتيون مُتحمّسون للغاية لهذا الاتفاق، ويجب على إسرائيل تقديره لأنّ شركاء السلام السابقين لم يُعبّروا عن الشعور نفسه»، على حدّ قول المندوب الإسرائيلي السابق لدى الأمم المتحدة، دوري غولد، خلال ندوة «معهد واشنطن»، ويوافقه الرأي مدير مشروع «عملية السلام في الشرق الأوسط» في المعهد المذكور، ديفيد ماكوفسكي: «للسلام الإسرائيلي مع مصر والأردن أهمية استراتيجية كُبرى، ولكنّ السلام مع الإمارات يوفّر فرصاً استثمارية، وسلاماً لم تشهده إسرائيل من قبل». في الإطار نفسه، نشرت مجلّة «فورين بوليسي» الأميركية مقالاً في 30 أيلول الماضي، كُتب فيه أنّ «اتفاق إسرائيل مع الإمارات والبحرين يمتد إلى أبعد من السلام الهشّ مع مصر والأردن. يُمكنهما (الإمارات والبحرين) المساعدة حتّى في إنهاء الصراع مع الفلسطينيين».
نجحت الإمارات و«إسرائيل» في مدّ جسورٍ للتعاون في كلّ المجالات: الثقافة والسياحة والاقتصاد والمال والمصارف والتبادل العلمي والأمني والسياسي… أي «شراكة استراتيجية»، تكاد تفوق بمدى تشابكها وعمقها الاتفاقية بين لبنان وسوريا بعد التسعينيات. بسرعةٍ، تُريد الدولة الخليجية رمي كلّ أوراقها لدى «إسرائيل»، حارقةً كلّ المراحل. تُجاهر بالعلاقة بينهما من دون أي «كفوف دبلوماسية»، تحفظ على الأقلّ ماء وجهها أمام الفلسطينيين وجزء كبير من الوطن العربي ــــ شعباً ومقاومةً ــــ لا يزال يرفض التوقيع على قرار الاستسلام. فحتّى الأردن ومصر حين وقّعا على التطبيع، رسما لهذا التقارب «حدوداً» لأسباب عدّة، منها غياب الحاضنة الشعبية. بالتأكيد أنّ اكتشاف صنف جبنة «صُنع في إسرائيل» على رفّ محلّ في القاهرة، سيتسبّب بموجة استنكار ومطالبات بإزالته. بينما الإمارات، وحتى ما قبل التوقيع، بدأت تتحوّل إلى «مشتى» للإسرائيليين. ولهذه «الوقاحة» الإماراتية تفسيران: أولاً انتشار مُخطّط إنهاء القضية الفلسطينية وتصوير العدو «رمزاً» للتفوّق والرخاء، وثانياً أنّ الإمارات لا تُمانع تقطيع كلّ أواصر القربى، شرط استدامة علاقتها بمحور الولايات المتحدة ــــ «إسرائيل» وما تشمله من «منافع» عسكرية وأمنية واستراتيجية، تسمح لها بفرض نفسها «مرجعية» خليجية ــــ سلامية، وبوّابةً لمواجهة إيران في المنطقة.
خطورة «اتفاق إبراهام» لا تنحصر داخل الإمارات، بل هو «قنبلة» يُراد عبرها تسميم المنطقة كلّها. هذا الخطر غير سرّي، ويُعبَّر عنه في أوساط «الغرب». مجلّة «فورين بوليسي» مثالٌ على ذلك، ففي مقالها الذي نشرته في 30 أيلول، تؤكّد أنّ وجود الإمارات والبحرين كمركزين تجاريين إقليميين «سيسمح لاتفاقيتَي السلام بتسهيل التواصل بين الإسرائيليين ومئات الآلاف من العمّال المُغتربين، بمن فيهم الإيرانيون والعراقيون واللبنانيون والفلسطينيون والسوريون، الذين تربط بلادهم عداوة مع إسرائيل». التواصل والتفاعل سيكونان تدريجياً، ولكن «خلق مساحة لهؤلاء للتفاعل كبشر بعيداً عن الأعمال العدائية وتبادل الاتهامات سيكون له تأثير على السلام الإقليمي».
تجرّ الإمارات خلفها كلّ الدول العربية نحو التطبيع، ولهذا يأتي «الاحتفاء» الغربي بها مُضاعفاً. التحدّيات أمام الجاليات العربية والإيرانية داخلها سيكبر في الأشهر المقبلة، ومن أهمّها تلك التي ستُواجه الجالية اللبنانية. لا إحصاء دقيقاً حول أعداد اللبنانيين في الإمارات، ولكن يوجد تقديرات بأنّها تُلامس الـ 200 ألف مواطن، ما يجعلها من الأكبر في دولةٍ «بوليسية» تمنعها من العمل السياسي والتعبير عن الرأي وحرية الاختيار، وصولاً إلى محاسبة أبناء الجالية وسجنهم وتعذيبهم بناءً على انتمائهم الديني. في «زمن السلم»، كانت تُفبرك ملفّات أمنية للبنانيين بـ«تُهمة» التواصل مع حزب الله، من دون وجود أي دليل، ورُحّل عدد منهم، وسط مخاوف من تجدّد موجات الترحيل الكُبرى مع تردّي ظروف العمل الاقتصادية وانتشار «كورونا». فكيف سيكون الوضع في زمن نبذ كلّ من يُجاهر بـ«كلّا» لأي من أنواع التطبيع مع العدوّ؟ هذا «القلق» بدأ يتسلّل بين لبنانيين عاملين في دبي: «ماذا لو طلبت شركتنا منّا التعاون مع شخص إسرائيلي وبناء شراكة داخل الأراضي المحتلة؟ إذا دخلت زبونة إسرائيلية إلى محل تصفيف شعر، كيف يتمّ التعامل معها؟». لم تُثر هذه الهواجس في حالة مصر والأردن «لأنّ الجالية اللبنانية أصغر»، وفي الدول الغربية «هناك سقف مرتفع من الحريات الشخصية تحفظ حقوق الفرد، وامتلاك أغلبية اللبنانيين جنسيات ثانية تحميهم في حال رفضهم التعاون مع إسرائيلي»، على العكس من الإمارات التي لا تترك خياراً… سوى الطرد.
هل يتهيّأ لبنان الرسمي لمرحلة مليئة بالتحديات؟
سيسهل التواصل بين الإسرائيليين والمغتربين الذين لا تزال بلادهم في حالة عداء مع «إسرائيل»
يقول مسؤولون في وزارة الخارجية والمغتربين إنّ «الاستعجال الإماراتي في التطبيع سيطرح أمام اللبنانيين إشكالية التعاون مع إسرائيليين». بُحث الموضوع داخل الوزارة، لكن بصوتٍ خافتٍ لأنّ «أي إعلان من قِبلنا قد يُضيء النور على الإشكالية ويؤذي اللبنانيين في وظائفهم، كأن تستدعيهم إدارتهم مثلاً وتضعهم أمام خيارين: التطبيع أو الرحيل». في الدردشات داخل «الخارجية والمغتربين»، طُرحت خيارات عدّة، منها التمييز بين الشركاء في المؤسسات والموظفين العاديين، وتطبيق سياسة «غضّ النظر» على قاعدة أنّه في دول أخرى قد يكون هناك لبنانيون يُنسقون مع إسرائيليين «من دون علمنا». يُبرّر المسؤولون هذا «التهاون» بأنّ أولويتهم «عدم التسبّب بأي ضرر للبنانيين في ظلّ الوضع الاقتصادي الصعب». صحيحٌ أنّ من واجب الدولة حماية مواطنيها، ولكن دفن الرأس في التراب والتذرّع بالعامل الاقتصادي لتبرير أي تعاون أمرٌ خطير، وقد يكون «الخاصرة الرخوة» التي سيستغلها أعداء لبنان لإجباره على التنازل.
الموضوع مُعقّد، وبحاجة إلى توافق سياسي حوله، «فتقرّر أن يؤجّل بتّه إلى حين تأليف حكومة، ويردنا شيء ملموس من الإمارات حول ظروف اللبنانيين وتعاون الشركات مع العدو، وتبيان الأجواء من السفارات الأخرى. الحسم بحاجة إلى قرار حكومي».