خطاب رئيس الجمهوريّة في يوم الاستقلال… والدولة العميقة!
د. عدنان منصور*-البناء
خطاب رئيس الجمهورية العماد ميشال عون في يوم استقلال لبنان، تضمّن وصفاً صريحاً وإنْ كان مؤلماً، لأوضاع بلد يترنّح ويتلاشى… وصف الرئيس لحالة لبنان، لا يحمل في طياته شيئاً جديداً، طالما أنّ اللبنانيين يعيشون مأساة حياتهم وحاضرهم، ويعانون منها، ويندّدون بها كلّ يوم صبحاً وعشياً.
أن يشتكي المواطن من واقعه المظلم، فهذا أمر طبيعيّ، لأنه يطمح ويتطلع الى دولة الكرامة والعدالة، والمواطنة، والقانون، وتكافؤ الفرص. لكن أن يشتكي رئيس البلاد من وضع فاسد شاذ، دمّر شعباً في ماله ورزقه واقتصاده ومعيشته، فهذا أمر لا يتقبّله منطق ولا عقل، خاصة أنّ خطابه يأتي في مناسبة وطنيّة، ذكرى الاستقلال، وبعد أربع سنوات من حكمه، وقبل أقلّ من سنتين من انتهاء ولايته.
رئيس الجمهورية أعرب عن إصراره وتصميمه على السير في التحقيق الجنائيّ، ونحن في هذا المجال ننحني له ونحيّيه، ونقف بكلّ قوّة إلى جانبه. لكن واقع الحال يقول: النظرية شيء، والتطبيق شيء آخر. فهل هناك في لبنان، في الوقت الحاضر، مهما علا شأنه، وأياً كان موقعه، مَن هو أكبر وأقوى من الدولة العميقة، وطبقتها الفاسدة المستغلة، التي تجذّرت وتشعّبت جذورها في كلّ أجهزة الدولة وهياكلها ومرافقها، ومؤسّساتها الماليّة والإداريّة والقضائيّة والسياسيّة، على مدى عقود، ومنذ «استقلال» لبنان وحتى اليوم، وعلى مختلف المستويات، التي استطاعت أن تثبت للعالم كله أنها أكبر من الدولة الظاهرة في الواجهة، وأكبر من أيّ حاكم أو مسؤول، وأنها فوق الدستور والقانون، والقضاء، تأمر ولا تؤمر، تحكم ولا تُحكَم، تملي في الخفاء قراراتها، ولا أحد يعترض عليها. تمسك بمفاصل السلطة الحقيقية، توجهها، تديرها، تفرض شروطها، تطيح بمن تريد الإطاحة به، تقبل بالذي يتوافق مع مصالحها، ولا تتردّد لحظة في تعطيل أيّ إجراء أو قرار يحدّ من نفوذها، ودورها، وهيمنتها، ومكانتها ومكاسبها. الكلمة لها، والقرار في يدها، وإنْ اعترض كلّ الشعب، وإنْ ثار المواطنون عليها، وارتفعت أصوات المعارضين الشرفاء من سياسيين وفعاليات، فهذا آخر همّها، وهي بالنسبة لها ليست أكثر من فقاقيع صابون…
طبقة متجذرة، متضامنة في ما بينها، موحّدة الصف والهدف، يجمعها المال والفساد، وهي على استعداد في كلّ وقت، وعندما تدعو الحاجة، للتضحية بمصالح وأمن واستقرار وطن بأكمله، وبحقوق شعب، إذا ما تعارضت مصالحها مع مصالحه، وإذا ما اقترب أحد من مغارتها للكشف عما تحويه في داخلها من خفايا وأسرار! الفاسد مرحّب به في كلّ وقت، للدخول اليها، إذ يشكل لها قيمة إضافية يعزز من نفوذها ودورها. أما الشريف والنزيه، فعليه أن يبقى بعيداً عنها وخارجها، وإنْ صرخ وندّد، وندب واقعه، ووجّه سيلاً من الانتقادات والشتائم للدولة والمسؤولين، حيث إنّ هذا السيل، يطال في الشكل دولة الصدارة، ولا يطال طبقة الفساد والمفسدين الخفية، والمحتكرين، والناهبين، والمستغلّين، والقابضين على ثروات البلاد والعباد، الذين يعيشون داخل دولة الظلّ المسماة الدولة العميقة ويتلطّون بها.
ما كنا نتمنّاه في عيد الاستقلال، وما كنا نريد أن نسمعه من الرئيس ميشال عون هو: كيف سنواجه الفساد بكلّ أشكاله، وكيف يمكن القضاء على مغارة الدولة العميقة، وما هي الإجراءات التي ستتخذ، والتي ينتظرها اللبنانيّون بفارغ صبر، بعد أن شعروا باليأس والإحباط من الدولة الصورية، التي لم تستطع أن تنتزع من أحد رموز الدولة العميقة قراراً يتيح لشركة التحقيق الجنائي «ألفاريز ومارسال»، السير في التحقيقات حتى النهاية، وتزويدها بالمستندات الضرورية من قبل حاكم مصرف لبنان، الغيور على السرية المصرفية، وعلى مصلحة لبنان العليا! فكان قراره فوق الدولة، و ـ للأسف ـ أكبر من الحكومة وكلّ المسؤولين، متجاهلاً عمداً رغبة الشعب، ورئيس الجمهورية، ومصلحة البلاد العليا، مؤدياً خدمة كبيرة لكلّ من لا يريد لشركة التدقيق الدولية الفاريز ان تنجز عملها كما يجب، وصولاً الى الحقيقة الكاملة، فكان التعطيل وكان انسحابها! علماً انّ الحاكم النزيه يعلم جيداً ما سيترتب عن رفضه تزويد «ألفاريز ومارسال» بالمستندات التي طلبتها من مصرف الحاكم، من تداعيات سلبيّة كبيرة، وهو غير عابئ ومكترث بالاجتهادات القضائيّة في هذا الشأن..
بعد سبعة وسبعين عاماً مرّت على إعلان «استقلال» لبنان عام 1943، وانتقال اللبنانيين من دولة الاستقلال الظاهرة، الى دولة الاستغلال العميقة، يقول كلّ مواطن حرّ وبصوت عالٍ، نحن معكم يا فخامة الرئيس من أجل الإصلاح. لكن حقيقة الواقع تقول: لا يمكن تحقيق هذا الإصلاح، في ظلّ الدولة العميقة وطبقة الفاسدين والمفسدين، الذين يديرونها في كلّ صغيرة وكبيرة.
إنّ خلخلة هذه الطبقة ثم اجتثاثها، هو ضرورة ومقدّمة رئيسة لكلّ إصلاح ومحاربة الفساد! فهل يتحقق ذلك خلال الفترة التي تتبقى من عهدكم؟!
ما يحتاجه لبنان، يا فخامة الرئيس، عملية جراحيّة دقيقة، تستأصل أورام الفساد من جذوره التي ترعاه دولة الظلّ العميقة، وأرباب طبقة الاحتكار ورأس المال، ولا إلى مهدّئات ومسكنات تخفف الآلام وتلقي على المرض العضال.
فريق الجراحين لعلل لبنان جاهز للقيام بهذه المهمة، لكن مَن الذي سينتقيهم ويأخذ المبادرة ويطلقها بكلّ جرأة وشفافية وعزم؟!
نأمل أن يتمّ ذلك في عهدكم، وفي ما تبقى من ولايتكم يا فخامة الرئيس، ليخرج لبنان بحق من دولة الاستغلال العميقة، الى دولة الاستقلال الحقيقي!
أمل كبير بالله أن لا يكون هذا اليوم بعيداً!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*وزير الخارجية والمغتربين الأسبق.