ثقب أسود في مصرف لبنان: 5 مليارات دولار للبنوك في عزّ الأزمة

عبادة اللدن – أساس ميديا

كان إسقاط التدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان فجّاً (ووقحاً) إلى درجة أنّ أحداً في الجمهورية المنكوبة لم يكن يتوقّع نهاية غير هذه، إلا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ربما.

الكوميديا السوداء لا تكمن فقط في أنّ الجهة المطلوب التحقيق معها متروكٌ لها القرار المطلق، ليس في مصرف لبنان فحسب، بل في كامل ما تبقّى من المقدّرات المالية للبلاد.

حسابات مصرف لبنان سرّ من أسرار النظام السياسي، وهناك إصرار من الجهات السياسية التي تمنح الغطاء لحاكم مصرف لبنان رياض سلامة على إبقائها كذلك، بما في ذلك ما هو أبسط بكثير من المستندات التي طلبتها “ألفاريز أند مارسل”، مثل القوائم المالية السنوية المفصّلة، وتقارير المدقّقين الخارجيين “إرنست أند يونغ” و”ديلويت”، وهي تقارير من المهين للشعب، ومن المعيب بحق الدولة من رأسها حتى آخر موظفيها، أن تخفيها عن العموم، إذ إنّ أية شركة مدرجة في أيّ من بورصات العالم المتقدّم أو المتخلّف ملزمة بنشرها.

يتذرّع رياض سلامة بالسرية المصرفية لحجب حقيقة تعاملاته مع البنوك والجهات الخاصة المستفيدة من هندساته وقروضه المدعومة، فما هي ذريعته لإخفاء المعلومات التي ينشرها أيّ بنك مركزي في أية دولة تحترم نفسها؟ يمكن الاطلاع مثلاً على البيانات السنوية لكلّ من البنك المركزي المصري والإماراتي والكويتي. وجميعها تتضمّن تقارير مدقّقي الحسابات الخارجيين. فلماذا يحتقر مصرف لبنان حق شعبه في الاطلاع على تقاريره السنوية؟

 

أين ذهبت 13 مليار دولار؟

لنضع التدقيق الجنائي جانباً؛ ثمّة صندوق أسود إضافي لتصرّفات مصرف لبنان منذ اندلاع ثورة تشرين الأول 2017. يفوت كثيرين أنّ مصرف لبنان كان لديه في نهاية سبتمبر 2019 موجودات أجنبية بقيمة 38.5 مليار دولار (شاملة محفظة الأوراق المالية)، بقي منها 25.2 مليار دولار حتى منتصف تشرين الثاني الجاري فقط لا غير. أي أنها فقدت 13.2 مليار دولار، ما يعادل الثلث، خلال 13 شهراً.

أين ذهب هذا الرقم الذي يفوق كلّ ما يحلم لبنان بالحصول عليه من صندوق النقد الدولي وفرنسا ومانحي مؤتمر سيدر؟ في الجمهورية اللبنانية رجل واحد يعرف الإجابة، وليس مصادفة أنه هو نفسه الرجل الذي تعاقدت الدولة اللبنانية مع شركة “ألفاريز أند مارسل” للتدقيق الجنائي في ممارساته وإجراءاته وحساباته.

سيقول حاكم مصرف لبنان رياض سلامة إنها ذهبت لدعم المواد الغذائية والوقود والأدوية والمستلزمات الطبية، لكنّ الأرقام لا تكذب. فالعجز التجاري في الفترة بين تشرين الأول 2019 ونهاية سبتمبر 2020 لا يتجاوز 7.7 مليار دولار، ولا شك بأن جزءا منه تمّ تمويله من التحويلات الخارجية، كما كانت العادة تاريخياً منذ التسعينات.

لنعطِ شاهدين من البيانات المتوفّرة: الأول أنّ تحويلات المغتربين زادت وتيرتها منذ بداية الثورة، لتبلغ بين تشرين الأول 2019 وآذار 2020 (آخر شهر تتوافر بياناته) نحو 4.9 مليار دولار، بمعدل 490 مليون دولار شهرياً. والثاني أنه في العامين السابقين 2018 و2019 كان العجز التجاري 17 مليار دولار و15.5 مليار على التوالي، بينما لم يكن العجز في ميزان المدفوعات يتجاوز 4.8 مليار دولار في 2018 و4.3 مليار دولار في 2019. أي أنّ مصادر التحويلات المختلفة كانت تموّل ثلثي العجز في الميزان التجاري.

الشاهدان السابقان يؤكدان أنّ استنزاف الاحتياطيات الأجنبية لدى مصرف لبنان له يفوق بكثير الدعم الذي يريد رياض سلامة رفعه الآن، عن حق أو عن غير حق.

5 مليارات للبنوك

التفسير الوحيد الممكن هو الانخفاض الكبير لودائع البنوك التجارية لدى مصرف لبنان بنحو 5.4 مليار دولار بين آذار وأيلول الماضيين، من 108.6 إلى 103.2 مليار دولار، وهو أول انخفاض تسجّله ودائع البنوك لدى مصرف لبنان منذ آذار 2019.

وعلى الرغم من أنّ البيانات الصادرة عن مصرف لبنان لا توضح ما إذا كان هذا الانخفاض يطول الودائع بالدولار أم بالليرة، فإن الانخفاض يشير بوضوح إلى أنّ مصرف لبنان يسدّد ودائع مستحقة بعد أشهر من الأخذ والردّ مع البنوك الغاضبة مما تراه طعنة تلقّتها من المصرف المركزي. إذ كانت بعض البنوك قد تخلّصت في السنوات الماضية من معظم ما تحمله من سندات الدولة اللبنانية بالعملة الأجنبية، ووظّفت دولاراتها في المقابل لدى مصرف لبنان باعتباره أكثر أماناً وغير مرشّح للتعثّر. لكن مع اندلاع الأزمة، لجأ مصرف لبنان إلى دفع نصف الفوائد المستحقة عليه بالليرة والنصف الآخر بالدولار، وأخذ يجدّد ودائع البنوك المستحقة قسراً، ما أوقع هذه الأخيرة في أزمات سيولة وهدّد ملاءتها.

لكن السداد للبنوك ليس قراراً عادياً ليتخذه مصرف لبنان وحده وسط أزمة مالية ونقدية مصيرية، من دون تحديد وجهة استخدامها، ودورها في أية عملية إعادة هيكلة مقبلة لمالية الدولة والقطاع المالي.

وأيا تكن مشروعية هذا الفعل، فإن مصرف لبنان هو اليوم أكبر ثقب أسود مالي في البلاد، إذ إنّ المعلومات عن حقيقة مركزه المالي أقل بكثير مما متوفّر عن خزينة الدولة وديونها المتعثرة، وأقل حتى مما هو معروف عن المراكز المالية للبنوك.

في آذار الماضي أعلنت الحكومة اللبنانية على الملأ التعثّر في سداد استحقاقات اليوروبوندز وفوائدها. أما مصرف لبنان، المدين للبنوك والقطاع المالي بودائع لديه قيمتها 108 مليارات دولار (تقابلها قروض بنحو 15 مليار دولار)، فلا أحد يعرف شيئاً عن جدول استحقاقاته، كم منها بالليرة وكم منها بالدولار؟ كيف يتعامل معها؟ هل يجدولها أم يتعثّر في السداد؟ أم يسدّد باستنسابية لمن يشاء من البنوك؟ وبسبب هذا الغموض، لا أحد يعرف حقيقة جودة الأصول التي توظّفها البنوك لدى مصرف لبنان، ولا أحد يعرف مصير ودائع الناس لدى البنوك المتورّطة مع مصرف لبنان.

كان حجم موجودات مصرف لبنان الخارجية البالغ 38.5 مليار دولار في بداية الأزمة كافياً للتأسيس لمعالجة الأزمة، حتى بعد استثناء محفظة اليوروبوندز غير القابلة للتسييل. لكن التصرّف بكل ما تبقّى من الثروة اللبنانية لم تقرّره حكومة سياسية، ولا حكومة تكنوقراط، ولا طاولة حوار، ولا صندوق النقد الدولي، ولا الجهات المانحة، ولا إيمانويل ماكرون. القرارات اتخذها، بمعظمها، رياض سلامة منفرداً أو شبه منفرد، بتفويض من الأحزاب الحاكمة التي تغطّيه.

منذ اندلاع ثورة 17 تشرين، كان واضحاً أنّ اتفاقاً على الحماية المتبادلة منعقد بين حاكم مصرف لبنان وطبقة سميكة من السياسيين، يقتضي الحفاظ على ثلاثة خطوط دفاع: عدم فرض الكابيتال كونترول، وعدم تغيير إدارة مصرف لبنان، وعدم الكشف عن صندوق الأسرار الأسود. سقط الكابيتال كونترول، فاستمرّ تهريب ودائع المحظيين، وأُجهضت محاولة تغيير حاكم الأسرار، وسقط التدقيق الجنائي.

مشكلة لبنان مع العالم أنّ تصريحات ماكرون والمديرة العامة لصندوق النقد الدولي كريستالينا جورجييفا واضحة بأن لا مساعدات من دون تدقيق في حسابات مصرف لبنان. ومشكلة لبنان مع نفسه أن لا تدقيق في حسابات مصرف لبنان من دون تغيير إدارته القابضة على الأسرار، لأن ذلك يعادل انتحاراً سياسياً لطبقة من السياسيين.

 

Exit mobile version