تحقيقات - ملفات
تنامي نفوذ الامن الفرنسي: قيم الجمهورية في خطر؟
النقاشات تسأل عن الحريات الفرنسية بمنح قوات الامن حصانة ضد الصورة التي كشفت ارتكابات في السابق
حسن مراد|المدن
أقرت الجمعية الوطنية الفرنسية، يوم الجمعة الماضي، المادة الـ 24 من اقتراح قانون “الأمن الشامل” الذي تقدم به نواب من كتلة “الجمهورية إلى الأمام”، الذي نصت احدى مواده في صيغتها الأولية على “عقوبة السجن لمدة عام وغرامة مالية قدرها 45000 يورو لكل من ينشر صورا تسمح بالتعرف على هوية أفراد الشرطة أو الدرك أثناء أدائهم لعملهم”.
ومع ان الغاية الأساسية للقانون تتمثل تنظيم العلاقة بين جهازي الشرطة (الوطنية والبلدية) والدرك، الا ان تدخلات وزير الداخلية جيرالد دارمانان أفضت إلى تعديلات بدلت وجه القانون المقترح، ما دفع بالرأي العام إلى نبذه واعتباره تقويضا للحريات.
فالمادة الـ 24 المرتبطة بتصوير عناصر الامن كانت الأكثر إثارة للجدل، وأثارت سخط الأوساط النقابية لا سيما الصحافية منها، واصدرت بيانا مشتركا اعتبرت أن الهدف هو منع السلطة الرابعة من توثيق تجاوزات الأجهزة الأمنية لا سيما الاستخدام غير المبرر للعنف.
وأبدت وسائل إعلامية، مرئية ومسموعة ومكتوبة، خشيتها من شعور العناصر الأمنية بازدياد نفوذهم ما قد يدفعهم للتعرض للصحافيين وإتلاف موادهم المصورة من دون وجه حق.
من جهتها، اعتبرت “منظمة العفو الدولية” أن دخول هذا القانون حيّز التنفيذ قد يؤدي إلى إفلات أفراد الشرطة من العقاب ما يقوّض حرية التعبير في البلاد وهو ما عبرت عنه أيضا منظمة “مراسلون بلا حدود”. القضاة بدورهم هاجموا القانون معتبرين أنه خطوة نحو الدولة البوليسية، كما وجه مئات السينمائيين دعوة للنواب للامتناع عن إقراره.
حتى مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الانسان أبدت خشيتها من المسّ بحقوق الانسان وبالحريات العامة عبر اقرار هذا القانون. ورأت المفوضية أن نشر صور أفراد الشرطة خلال قيامهم بعملهم يعد عنصراً هاماً من عناصر الرقابة الديمقراطية.
واتضح كذلك عدم إجماع الدائرة المحيطة بإيمانويل ماكرون على هذا القانون. وزير الخارجية، جان إيف لو دريان، بدا متحفظاً على تأييده. وحين سُئل في مقابلة تلفزيونية عما إذا كان مستعداً للموافقة عليه لو مُنح حق التصويت، تهرب من الإجابة بذريعة عدم اطلاعه بعد على كامل النص.
حالة من الغليان دفعت بالنائبين اللذين تقدما باقتراح القانون إلى توضيح بعض النقاط من وجهة نظرهما. فأكد كل من جان ميشال فوفيرغ وآليس تورو أن قانونهم المقترح لا يستهدف السلطة الرابعة على الإطلاق، بالتالي لن يُمنع أي صحافي من التقاط الصور وبثها. “المستهدف هم المواطنون أصحاب النوايا السيئة، الذين يبادرون إلى نشر مقاطع مصورة في مواقع التواصل الاجتماعي بغرض بث الكراهية والتشهير بالعناصر الأمنية”، ما يعرض حياة العناصر للخطر عند انكشاف هويتهم.
يتقاطع هذا الكلام في جانب منه مع ما صدر عن دارمانان الذي رفع شعار “حماية من يحمينا”، مضيفاً أن أجهزة الشرطة لا تتهاون على صعيد المحاسبة الداخلية، فأفرادها هم الأكثر تعرضا للعقوبات المسلكية بحسب الوزير الفرنسي. واستطرد دارمانان مميزا بين حق التصوير وحرية النشر. وفقا لوزير الداخلية، إقرار القانون لن يمنع الصحافيين من مواكبة عمل عناصر الأمن وتصويرهم. في المقابل، لن تكون لهم مطلق الحرية في نشر المواد المصورة، فعند توثيقهم لتجاوز ما، عليهم التوجه للأجهزة القضائية أو نشره بعد تمويه الوجوه.
من جهتها، رأت نقابات الشرطة أن القانون ما يزال غير منصف بحقهم طالما لم يفرض على وسائل الإعلام تمويه وجوه أفراد الشرطة. وتساءلت النقابات، عن سبب تمويه وجوه المتهمين أمام القضاء، بذريعة حمايتهم من عمليات الانتقام، فيما تستثنى العناصر الأمنية من هكذا إجراء؟
التبريرات والتطمينات المذكورة أعلاه لم تزحزح معارضي المشروع عن موقفهم. فأشار عدد من الصحافيين إلى قيام عناصر الشرطة، في أكثر من مناسبة، بعرقلة عملهم وإتلاف موادهم المصورة بذريعة عدم امتلاكهم حق التصوير رغم غياب نص قانوني يجيز، حتى الساعة، تلك الأساليب. هو أمرٌ يشير إلى امتلاك عناصر الأمن مقاربة خاصة بهم للمواد القانونية، لا تردعهم عن التصرف خارج نطاق صلاحياتهم. فكيف الحال مع إقرار قانون الأمن الشامل بمواده “الفضفاضة” ما يجعلها عرضة للتأويلات المختلفة؟
والمقصود بهذا الخصوص تعبير “النوايا السيئة” الذي ذكره كل من فوفيرغ وتورو، ما قد يشكل ذريعة أمنية لاستهداف كل من يرفع آلة تصوير أو هاتفاً محمولاً لمجرد الشك بنواياه، سواء كان صحافياً أو مواطناً عادياً.
واستغربت وسائل الاعلام المرئية طلب وزير الداخلية ونقابات الشرطة تمويه وجوه عناصر الأمن، وهو أمرٌ مستحيل خلال البث المباشر للمظاهرات والتحركات الاحتجاجية. وما يعمّق الازمة هي منشورات بعض نقابات الشرطة في وسائل التواصل الاجتماعي، الدالة في بعض الأحيان على ميول متطرفة وعنصرية. ولم تتوانَ النقابات حتى عن التشهير بعدد من الصحافيين وتهديدهم علانية.
أما بخصوص استهداف القانون للمواطنين دون الصحافيين، فأشارت منظمات حقوقية إلى أن رصدها للانتهاكات يعتمد، في جزء منه، على ما ينشر في مواقع التواصل الاجتماعي. بالتالي، الأخذ بتفسير النائبين المذكورين سيفضي حكماً إلى تراجع في توثيق الانتهاكات.
من جهة أخرى، تفرض الترسانة القانونية الفرنسية في مواقع التواصل الاجتماعي التعاون مع الجهات الرسمية. وعليه قد تتبنى هذه المواقع سياسة الحذف العشوائي تفادياً لأي اشكال قانوني.
ولفت عدد من الصحافيين المستقلين إلى انعكاس هذا القانون على دخلهم المادي، إذ أبدوا خشية من امتناع وسائل الأعلام عن شراء موادهم المصورة بسبب ما يفرضه هذا القانون من قيود لناحية البث، إلى جانب عدم تغطيتهم لبعض الأحداث خوفاً من الملاحقة.
ولم تتردد وسائل الإعلام في استعادة أمثلة سابقة لمواطنين وقعوا ضحية عنصرية الأجهزة أو عنفها غير المبرر. تجاوزات ما كان بالإمكان توثيقها لولا وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي. لا بل ساهمت هذه المواد المصورة في دحض ادعاءات أفراد الشرطة كما في حالة سيدريك شوفيا الذي قضى اختناقاً في كانون الثاني/يناير 2020 على أثر توقيفه، فادعى أفراد الأمن زورا أنهم كانوا في حالة دفاع عن النفس قبل تراجعهم عن أقوالهم بعد انتشار فيديوهات توثق حقيقة ما جرى.
كما لم يغب عن بال معارضي القانون تفصيل حمل دلالة رمزية: النائب جان ميشال فوفيرغ ليس إلا الرئيس السابق للـ RAID ، إحدى فرق النخبة التابعة للشرطة ما يشير إلى تغلغل المنطق الأمني في صياغة التشريعات.
وازدادت حدة المواجهة بين وزارة الداخلية والجسم الاعلامي بعدما كشف أحد الصحافيين عن قيام عناصر من الشرطة بتهديده بالاعتقال خلال تغطيته لمظاهرة مناهضة لقانون الأمن الشامل، ليرد دارمانان يوم الأربعاء أن الصحافي المذكور لم يستحصل على اعتماد صحافي لتغطية المظاهرة. أثار التصريح سخط أكثر من 40 وسيلة إعلامية فرنسية، في مناخ متوتر أصلا، معتبرة أن الوزير يسعى إلى فرض قواعد جديدة، فلطالما غطى الصحافيون المظاهرات والحركات الاحتجاجية من دون الحاجة لاستصدار مسبق لأي اعتماد صحافي.
وفي محاولة لامتصاص غضب الشارع، وبناء على اقتراح وزير الداخلية، أضيفت إلى نص المادة الـ 24 فقرة “تضمن استمرارية حرية نقل المعلومة” واعتبار أن سوء النية يجب أن يكون “جلياً”. لكن أوساطاً صحافية قلّلت من أهمية هذا التعديل معتبرة أن القوانين الفرنسية تضمن حرية العمل الصحافي ومع ذلك يستمر التعدي على الصحافيين من قبل عناصر الشرطة.
ارتكب دارمانان جملة من الأخطاء: بداية عدم مراعاته لمسألة الحريات وما تحمله من رمزية وهو ما تجلى في تصريحاته غير المدروسة واستخفافه بصياغة المادة 24. ثانياً فشله في استمالة الرأي العام، فآخر من وقع ضحية التشهير لم يكن شرطياً بل مدرس التاريخ صاموئيل باتي، فافتقد دارمانان بذلك لمزاج شعبي متفهم لطرح هذه المادة واعتمادها.
والخطأ الثالث أن الحكومة الفرنسية، وانسجاما مع خطاب ماكرون عن “الانعزالية الإسلامية”، تقدمت بمشروع قانون “لتعزيز قيم الجمهورية” على أن تبدأ مناقشته مطلع العام المقبل. تناول المشروع في المادتين 25 و26 مسألة عدم تعريض حياة أي شخص للخطر، في رد على جريمة مقتل المدرس باتي. فلماذا استصدار قانون خاص بأفراد الشرطة؟
مجرد التداول بهذا القانون يشير إلى الموقع المتقدم الذي باتت تحتله الاجهزة الأمنية الفرنسية على الصعيد الداخلي إذ ازداد الاعتماد عليها في السنوات الخمس الأخيرة “لضبط الأمن والنظام العام” بعد توالي العمليات الإرهابية ومظاهرات السترات الصفر والحجر الصحي.
نفوذ متنامٍ دفع بعناصر الشرطة للجنوح نحو العنف، ما يبعث على القلق خاصة مع تفاقم حالة الاحتقان الشعبي بسبب تردي الأوضاع المعيشية. مناخ اجتماعي ليس بوارد الانحسار بل مرشح للانفجار في المستقبل القريب على خلفية التداعيات الاقتصادية لأزمة الكورونا. ولا ننسى بالطبع الاستنفار الأمني بسبب التهديدات الإرهابية (من سلفيين ويمينيين متطرفين).
هي مؤشرات تطرح علامة استفهام حول وجود علاقة محتملة بين السعي “لحماية وتحصين أفراد الشرطة” من جهة، وطبيعة استعدادات أجهزة الدولة لمواجهة هذه التحديات المستقبلية. وعبّرت أحزاب المعارضة عن تلك الهواجس، خلال جلسات المناقشة، متهمة وزير الداخلية بمحاولة كسب “حرب صور”.