الإدارة الأميركية الجديدة وملف الحريات على الولايات المتحدة التوقف عن ازدواج المعايير ومحاولة فهم ظروف الدول والمناخ الفكري والسياسي السائد لدى شعوبها
ما أكثر مشاهد الحق الذي يراد به باطل، وذلك ينطبق تماماً على سياسة ازدواج المعايير والكيل بمكيالين التي تتبعها القوى الكبرى في الغرب، خصوصاً في الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي، في محاولة لابتزاز الدول وتخويف الحكومات بملف الحريات وحقوق الإنسان. وبداية لا يجادل أحد في أن هذا الملف ملف عصري مستحدث ظهر بظهور العهد الدولي لحقوق الإنسان، ولكن الاعتبارات السياسية طغت على فلسفته القانونية، بل وطوعته في كثير من الأحيان لمصالح قوى معينة على حساب غيرها واتخذت منه ذريعة لتوجيه السياسات وتغيير النظم وإطاحة الحكومات.
نحن لا ننكر بداية أن ذلك الملف الإنساني هو دليل على رقي البشرية وتقدمها على طريق العدل والمساواة وسيادة القانون، ولكن الأمر اختلف تماماً، فكم من الجرائم ارتكبت في ظل بريق ذلك الشعار الإنساني الرفيع، بحيث استخدمته القوى الكبيرة كفزاعة للدول الصغيرة واستحلت دول كبرى لنفسها ما عاقبت به غيرها، فحقوق الإنسان في الولايات المتحدة الأميركية ليست هي التي في الدول الأفريقية، وحقوق الإنسان في دول الاتحاد الأوروبي تختلف عن نظيرتها في الدول العربية، ولعل ذلك التوجه المزدوج هو جوهر المشكلة التي يعانيها كثير من النظم والحكومات، فإذا استسلمت للإرهاب فهي خائنة وضعيفة، وإذا قاومته بكل الطرق القائمة والاستباقية، فإن ذلك في نظر العرابين الجدد لحقوق الإنسان خرق لميثاقه واعتداء على القانون وسيادته، فإذا وضع جندي أميركي حذاءه على رقبة مواطن أميركي أفريقي ظل يحتضر تحت وطأة الموت على مشهد علني مستنجداً بالحياة، مؤكداً أن أنفاسه الأخيرة تتقطع في هذه الحالة تمر الجريمة لأنها جريمة أميركية، وإذا أطلقت الشرطة البريطانية الرصاص على شاب أفريقي في رصيف محطة المترو وقد رفع يديه مستسلماً لمجرد الاشتباه فيه ثم صرعته رصاصات الشرطة البريطانية فوراً في جريمة قتل بدم بارد، وإذا جرى استجواب من فعل ذلك قال إنه لا يعلم إذا كان ذلك الشخص يحمل حزاماً ناسفاً أم لا! ولكن تبقى الجريمة البريطانية مختلفة عن وقوعها على أرض عربية، لذلك فإننا نطالب بتوحيد المعايير في قضايا حقوق الإنسان والتوقف عن العبث بملف الحريات صيانة للشعوب وضمانة للمجتمعات، ولأن قضية حقوق الإنسان ومعها ملف الحريات هي قضية شائكة فإننا نطرح الآن بعض الاعتبارات المتصلة بها:
أولاً: إننا نتذكر أن إدارة جيمي كارتر كانت من أسبق الإدارات الأميركية اهتماماً بملف حقوق الإنسان، وربما كان ذلك من منطلق ديني مسيحي يعبر عن الإيمان الذي يلتزم به ذلك الرئيس الأميركي الذي جاء من قاعدة ريفية وظل معنياً بالقيم الأخلاقية إلى حد كبير في فترة ولايته، ثم تغيرت الظروف وجاء رؤساء مختلفون مثل ريغان وبوش الأب وكلينتون وبوش الابن وأوباما، ثم كانت نهاية المطاف مع الرئيس الأميركي الأخير الذي خسر تقريباً الانتخابات الرئاسية، وأعني به دونالد ترمب. وهو يملك شخصية أثارت الجدل واختلفت حولها الآراء لأنه كان مختلفاً عن سواه، يبدو صدامياً في تصريحاته، متقلباً في سياساته، مستبداً في ردود فعله ولكنه أغلق عينيه إلى حد كبير عن ملف حقوق الإنسان واعتبر أن مصلحة الولايات المتحدة الأميركية أولاً وثانياً هي ما يمكن أن تحصل عليه الإدارة الأميركية من أموال غيرها، وما تستقطعه من عوائد دول أخرى تحت مسمى ثمن الحماية وضريبة الدفاع عن أراضيها.
وعلى رغم أن فترة رئاسته قد خلت من تورط أميركي في عمليات عسكرية، بخلاف رئيس آخر مثل بوش الابن، فإن سياسات ترمب المتسمة بالعنف والخروج على الأعراف الدبلوماسية والقواعد الحاكمة للتعامل مع الغير أقول إن ذلك النمط كان هو البديل الذي اعتمد عليه حتى لا يبعث بقوات أميركية خارج حدود بلاده، وقد اتهمه خصومه خصوصاً في الحزب الديمقراطي بل وفي حزبه الجمهوري أيضاً بأنه يغمض عينيه عن ملف الحريات وحقوق الإنسان ويرعى بعض النظم التي يعتبرونها ديكتاتورية، وبذلك اتخذها أولئك الخصوم أداة للهجوم عليه وتشويه صورته والنيل من شعبيته.
لقد كانت شعارات جو بايدن الانتخابية معتمدة إلى حد كبير على ما يتصل بالسياسة الخارجية لأن الرئيس الأميركي الجديد بايدن هو أحد خبرائها في تاريخه النيابي الطويل، كما أن سياسات ترمب أنعشت الاقتصاد الأميركي فلم يعد باستطاعة الخصوم الدخول إليه عن طريق سياساته الداخلية.
ثانياً: يجب أن نتوقف طويلاً أمام نسبية التعريف الدقيق لحقوق الإنسان بل وملف الحريات برمته؛ لأن لكل دولة ظروفها، ولكل شعب خصائصه على رغم أننا نسلم بوجود حد أدنى من المعايير المشتركة لمفهوم قضايا حقوق الإنسان إلا أننا نرى أن العامل الثقافي يلعب دوراً رئيساً فيها، فثقافة الشعوب والقيم السائدة في المجتمعات هي التي تحدد المعيار الوطني لحقوق الإنسان، فالبعض يرى أن تدني مستوى المعيشة وشيوع الفقر وحرمان المواطنين من الحد الأدنى لتكاليف الحياة هو في مجمله خرق لحقوق الإنسان وظلم له، بينما ترى مجتمعات أخرى أن قبول “المثلية” هو واحد من حقوق الإنسان، بينما تنظر إلى ذات الأمر مجتمعات شرقية برفض وازدراء، لذلك فإن النسبية الثقافية لحقوق الإنسان يجب أن تؤخذ في الاعتبار، وأن يكون لها تأثير في فهم ما يجري في بعض الدول التي تواجه الإرهاب على سبيل المثال، فتحدث تجاوزات في ملف حقوق الإنسان والحريات العامة ولكن تلك الدول تبدو أحياناً مضطرة لذلك دفعاً لخطر داهم أو مواجهة لفعل إرهابي متوقع، وعندئذ يكون صياح الغرب مزدوجاً مرة ضد الإرهاب وأخرى ضد من يقاومونه. ويبدو الأمر في هذه الحالة محيراً وعجيباً، إن الأميرة البريطانية ديانا التي اعترفت بالخيانة الزوجية علناً ماتت قديسة في بلادها بل ومحبوبة في العالم كله، بينما هناك فتاة قتلها والدها في صعيد مصر لأنها تزوجت زواجاً رسمياً صحيحاً بشاب من دينها وعمرها ولكن الأب لم يكن راضياً عنه، فالنسبية هنا قضية يجب أن تؤخذ في الاعتبار حتى ولو كان فيها أحياناً بعض الإخلال بمبدأ المساواة في المعايير.
ثالثاً: ليس من شك في أن الموجات الإرهابية والتنظيمات المتطرفة مثل القاعدة وداعش وغيرهما قد لعبت دوراً سلبياً في إقرار حقوق الإنسان والتسليم بها، فلم يعد مقبولاً أن تستسلم الشعوب للهجمات الإرهابية، وأن نعتبر تبادل العنف بالعنف خرقاً لحقوق الإنسان، وفي ظني أن رعاية حقوق الإنسان تنسحب على الأغلب الأعم من البشر الآمن الذي يطلب الحياة وليست لتلك القلة المعتدية التي تروع المجتمعات وتستنزف طاقات الدول بهجمات عدوانية تحت ستار الدين أحياناً أو التطرف القومي أحياناً أخرى.
رابعاً: إن مسألة الأقليات من أكثر القضايا حساسية في ملف الحريات وحقوق الإنسان، إذ إن الحريات الدينية حق مكفول للبشر والعقائد مرعية وممارسة الشعائر الدينية محمية ومصانة، ولكن هناك بعض ضعاف العقول ومرضى النفوس الذين يخرقون ذلك الالتزام ويقومون بتصرفات لا ترضى بها ديانات سماوية ولا أرضية تتسم بضيق الأفق وخراب العقل لذلك تهتم بها الدول المختلفة وتضعها في صدر اهتماماتها بملف الحريات وحقوق الإنسان.
خامساً: إننا نلفت النظر إلى مخاطر الاستخدام التحكمي لملف الحريات وحقوق الإنسان ونتطلع إلى الإدارة الأميركية الجديدة أن تكون واعية بهذا المفهوم بحيث لا تستخدم هذا الملف للضغط على أنظمة لا ترضى عنها أو حكومات لا تتفق مع هواها، إذ إن العبرة في النهاية هي سيادة القانون واحترام حقوق الإنسان مع الوضع في الاعتبار للأوضاع القائمة والظروف المحيطة.
هذه قراءة عاجلة في ملف الحريات وحقوق الإنسان واحتمالات استخدامه في ظل الإدارة الأميركية الجديدة التي ندعوها إلى التوقف عن ازدواج المعايير، وسياسة الكيل بمكيالين، ومحاولة فهم ظروف الدول والمناخ الفكري والسياسي السائد لدى شعوبها بما لا ينال من المفهوم المتفق عليه للحدود الدنيا، على الأقل، لحقوق الإنسان المعاصر.