“ليبانون ديبايت” – عبدالله قمح
سعد الحريري وبعد شهرٍ من التكليف ضاع…
ضاعَ رغم كل “السيرفس” السياسي الموضوع في خدمته. “لعيونه” أدرج “رفع الدعم” على خانة الاسقاطات كي يعبر “مضيق السراي” برشاقة واللائحة تطول، فإسقاط “التدقيق الجنائي” يندرج تحت نفس الخانة.
هذا عملياً له تفسير مفاده أن سائر القوى السياسية سلّفت الحريري ما لم تسلّفه لأحد، حتى لحسان دياب، رغم ذلك ما برح الرجل خانة “التدلّل”.. وما زال مطلوباً!
عند بوابة عيد الاستقلال سطّر رئيس الجمهورية ميشال عون مذكّرة جلب بحق الحريري المعتكف في بيت الوسط. يحاول الحريري فرض إملاءات على “مسألة التشكيل” مستفيداً من التراجع الفرنسي والتقدم الأميركي. في المقابل، يحاول الرئيس جلب المكلف إلى بيت الطاعة تحت عناوين شتّى ليس آخرها اتهامه بالاستقواء. عملياً، الحريري لا يستقوي بـ”المبادرة الانقاذية” بل يتستّر بها. استقوائه الحقيقي يتم عبر “العقوبات الاميركية”.
باتت العقوبات شريكة في التأليف إذاً، والتأليف لا يحتمل أكثر من شريك دولي واحد. في حالتنا، يعني ذلك عملياً أن يصبح الشريك أميركياً، يفترض بهذه الحالة أن يخرج الفرنسي من الميدان أو يتم اخراجه، وعلى ما يبدو، بدأ يتم إخراجه بأشكال متنوعة.
هذا يفترض بدوره إنهاء المبادرة الفرنسية ومفاعيلها. وهو بالضبط ما يحدث الآن. المبادرة وبعد أن جرى إفراغها من مضمونها السياسي ربطاً بقرار إدخالها دهاليز عملية تأليف الحكومة من خلال مشروع إستدراج واضح وقفت خلفه قوى الداخل مجتمعة، يتم الآن تنشيفها من جوهرها الاقتصادي والمالي. إسقاط التدقيق الجنائي تم تحت هذا العنوان. قام البند الأول من المبادرة الفرنسية على التدقيق الجنائي والحق بآخر مهمته الإصلاح الاقتصادي. اسقاط “التدقيق” يعني إنهاء مشروع الإصلاح واستطراداً بيان الحكومة القائم على الربط بين المسارين. ما يعني إعدام المبادرة الفرنسية في فروعها المالية والاقتصادية والسياسية بعد أن جرى “تهبيط” معنوياتها إلى الدرجات الدنيا.
هذا يُرتّب قراءة فرنسية جديدة. عملياً، تُدرك باريس أنها المستهدفة من إسقاط التدقيق الجنائي بصفتها راعية لمشروع الحل اللبناني، ولا بد أن تكون تنظر إلى المسألة على أنها “غارة على مبادرتها”. هذا يتقاطع مع أجواء فرنسية توحي بالسلبية، فنظرة كثرٌ في باريس تقوم على فكرة وجود رغبات لإخراج المبادرة الفرنسية عن مسارها وإنهائها، بعدما اكتشفت الطبقة السياسية التقليدية حيازة المبادرة لعناصر إتهام تقدم ذرائع إخراج هؤلاء، فتولى هؤلاء تفخيخها وزرع الأجسام المشبوهة فيها.
تحت هذا العنوان يجري تركيب الطرابيش في بيروت. عندما أدرك الجزء العريض من أركان الطبقة التقليدية أن المبادرة الفرنسية ليست سوى مشروع إعداد سياسي بعيد الأجل، تعاضدوا في سبيل إسقاطها. الفرنسيون ما زالوا صامتين ويترقبون النتائج، بينما المطلعون على موقفهم يجزمون أن الرّد الفرنسي سيأتي ثقيلاً هذه المرّة، خاصة بعدما اكتشفت باريس وجود عناصر تخدم فكرة أن ثمة إنقلاب على مبادرتها من قبل أطراف كانت تدعي إنضواءها ضمن تركيبة المبادرة. هذا يحمل على الظن أن المبادرة الفرنسية انتهت والثمن لن يكون أقل من دخول أوروبي بدأ يجري التنقيب حول شكله.
فَهمُ هذا التقلب في المزاج بدأ خلال إجتماع باريس مع وزير الخارجية مايك بومبيو. يمكن القول أن الرجل حمل إيضاحات واضحة مفادها أن واشنطن، سواء كان تحت إدارة ترامب أو بايدن، ستكون محكومة للكونغرس ذات الغالبية الجمهورية، وهذا الكونغرس ما ادخلَ تعديلات على طبيعة نظرته للمسألة اللبنانية. وهذا يعني أن “منطق العقوبات” سيدوم، وأن من تعوّل عليهم فرنسا في تطبيق مبادرتها غير المقبولة اميركياً، سيعيدون ترتيب أولوياتهم بناءاً على قواعد الخشية من العقوبات.
لذا، من يتحدّث باسم المبادرة الفرنسية عليه أن يرتاح، أو أن يصمت. ما افتعل بحقها حتى الآن يرتقي إلى مستوى جريمة. لقد أوديَ بالمبادرة بكمين سياسي أعدّ لها عند “الكوع”. المتهمون كثير. سعد الحريري بصفته رئيساً مكلفاً مُتهم بإزهاق روح المبادرة الفرنسية رغم تستّره بها. ملامح الانقلاب بدأت تظهر عليه حين مضى يعتمد العقوبات الاميركية منطلقاً له في التقرير السياسي.
بات الحريري متشدّد ليس فقط حيال تمثيل التيّار الوطني الحرّ، بل حتى حيال تمثيل حزب الله وتيار المردة وحركة امل، المعاقبون اميركياً. هذا ينسحب على تمثيل النائب أسعد حردان حتى ولو أن القومي غير مدرج على قوائم العقوبات. هذا الانقلاب التكتيكي يقود إلى فهم أن الحريري ما عاد “الحريري الفرنسي” متبني المبادرة، بل عاد إلى لعب دور “اميركي” متظللاً بالمبادرة الفرنسية، محاولاً كما درجت العادة المواءمة بين مجموعة اضاد.
حدث ذلك في ظل التحولات الجارية. أرسل رسالة شديدة البلاغة مفادها أن أقصى اهتماماته في الوقت الحاضر هي تنظيم صفوف تيّار المستقبل. هذا يعني عملياً خروجه عن مسار التأليف حتى إشعار آخر ريثما تتبلور اتجاهات أفضل. وحتى لا تكون الرسالة فارغة، نصّب في جناح “الشورى” السياسية المسماة “نيابة رئيس” عناصر تمثل صلب “الجناح المتطرّف” الذي يتبنى وجهات نظر ليس التوافق مع حلفاء حزب الله من ضمنها. وهذا الجناح بات الآن مشاركاً في صنع قرار الرئيس المقبل للحكومة.
عراضة اتسمت بالعنف البالغ. جاء ذلك بالتزامن مع إسقاط “التدقيق الجنائي” الذي يخشاه الحريري وفريق واسع من “حزب المصارف”. اسقاط التدقيق الجنائي له قدرة على إحالة كامل أجندة الإصلاح السياسي الى المجهول. هذا كله يحمل على الظن أن طبائع الحل الحكومي راهناً أحيلت بدورها إلى الجمود السياسي ريثما يرتسم المشهد الدولي، وهو ما كان دائماً محطّ تحذير من جهات عديدة.