تطمينات فريق بايدن لإيران تثير القلق
راغدة درغام -“النهار العربي”:
تفيد المعلومات من طهران أن هامش الارتياح لدى القيادات الإيرانية جعلها واثقة جداً من نقلة نوعية في العلاقة الأميركية- الإيرانية مع وصول الرئيس المُنتخب جو بايدن الى البيت الأبيض، وذلك نتيجة “تطمينات واتصالات مع فريق بايدن” بحسب مصدر موثوق وصفها بأنها عبارة عن “مساومات سرية” في “طبخة ما وراء الكواليس”.
قد لا تكتمل هذه الفرحة إذا نجحت إدارة ترامب في تقييد إدارة بايدن عبر عقوبات تنوي فرضها وتوسيعها على إيران، كما على الصين وروسيا إذا قامتا بتلبية الإصرار من طهران على بدء المحادثات حول صفقات أسلحة في شهر كانون الأول. ثم هناك مسألة مجلس الشيوخ التي لم تُحسَم بعد إما لصالح الحزب الجمهوري أو الحزب الديموقراطي في انتظار فرز الأصوات في ولاية جورجيا. ذلك ان السياسة الخارجية الأميركية ستتأثر جذرياً بنتيجة الفرز في جورجيا لأن الحزب الجمهوري، وفريق ترامب بصورة خاصة، ينوي تعطيل ما في ذهن فريق بايدن عبر مجلس الشيوخ – بدءاً برفض التصديق على تعيينات أساسية مثل وزيري الخارجية والدفاع، وانتهاءً بدحض آمال الانطلاق من رفع العقوبات عن إيران كجزء من المساومة على صورة جديدة للاتفاق النووي JCPOA وكوسيلة لاستئناف الود في العلاقة الأميركية- الإيرانية الثنائية. فالعبء الحقيقي يقع الآن على أكتاف فريق بايدن لا سيّما أولئك داخل الفريق الذين يستعجلون إحياء اتفاقية JCPOA التي انسحب منها الرئيس دونالد ترامب لإثبات طلاق إدارة بايدن التام عمّا قامت به إدارة ترامب.
العبء على أولئك الذين يقال انهم في مساومات سرّية مع إيران ستشجّع تطرّف حكّام إيران، بالذات “الحرس الثوري” الذي يتولى ملفي السياسات الإقليمية ورعاية القوات غير النظامية التابعة له في لبنان والعراق وسوريا واليمن. فالتوفيق لن يكون سهلاً بين الاندفاع الى إعادة احتضان الجمهورية الإسلامية الإيرانية وبين الادعاء بمركزية حقوق الإنسان في سياسات إدارة بايدن، بالذات على الصعيد الداخلي الإيراني، والمفاوضات النووية وحول الصواريخ الباليستية ستكون صعبة ومعقدة. إنما من أخطر ما قد يفعله فريق بايدن هو عقد صفقات سرية مع “الحرس الثوري” تضمن له عدم التطرّق الى نشاطاته الإقليمية على نسق ما حدث عام 2015 حين أغدق الاتفاق النووي الأموال التي مكّنت “الحرس الثوري” من تنفيذ مشاريعه الإقليمية بلا محاسبة.
المعسكر المتشدّد داخل الولايات المتحدة في ولائه القاطع للاتفاق النووي وفي كراهيته العميقة لدونالد ترامب يرفض أن يولّي مشروع “الحرس الثوري” الإقليمي الأهمية التي يستوجبها. ما يدّعيه هذا المعسكر هو أن أولويته النووية أهم بكثير من المغامرات الإيرانية الإقليمية ومن دعم طهران مثلاً لـ”الحشد الشعبي” في العراق أو “حزب الله” في لبنان. ازدواجيته لا يُستهان بها وهي خطيرة على المنطقة العربية كما على ما يدّعيه المنتمون الى هذا المعسكر من احترام لسيادة الدول والقيم والحقوق الإنسانية والحضارية. مسؤوليته القومية أميركياً والقيادية دولياً تتطلب من هذا المعسكر أن يتوقف الآن عن كراهيته التلقائية، بما في ذلك نحو الشعوب العربية، وأن يدقق في متطلبات هذه المرحلة بدلاً من الهرولة الى ماضٍ أثبت فشله أخلاقياً وأمنياً وسياسياً عندما تعمّد غض النظر عن التجاوزات الإيرانية بل وباركها عملياً بموافقته على استبعادها وفصلها عن الصفقة النووية بموجب إصرار طهران.
استبعاد أي تمثيل عربي في المفاوضات المُقبلة بين الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن زائد ألمانيا وبين إيران أمرٌ يتطلّب الإصلاح. لا يجوز أن تخضع الدول الخليجية العربية لهذا النمط مجدّداّ كما سبق وخضعت عام 2015 عندما تم استبعادها عن حديث مع إيران يصب في خانة الأمن الإقليمي المصيري لهذه الدول. عليها اليوم أن تتحرّك فوراً لرسم سياسات واستراتيجيات استباقية تضمن أمرين أساسيين: أن يكون للدول العربية الخليجية مقعد في المفاوضات المقبلة، والإصرار على أن تشمل المفاوضات مع إيران أدوارها الإقليمية.
الرئاسة الفرنسية شدّدت هذا الأسبوع على “أهمية توسيع التفاوض مع إيران ليشمل دورها الإقليمي وصواريخها”، كي لا يبقى تدخلها في شؤون الدول الأخرى عبر “الحرس الثوري” والميليشيات التابعة له أمراً اعتيادياً. هذا موقف يجب على ألمانيا التي تترأس الاتحاد الأوروبي حالياً أن تتبناه وتسوّقه وتصرّ عليه. الدور الأوروبي ليس حاسماً في شكل قاطع لكن إدارة بايدن ستكون في حاجة الى أوروبا في المسألة الإيرانية وهذه فرصة للدول الأوروبية- المانيا وبريطانيا وفرنسا- لأن تعوّض عن الأذى الذي سبّبته للدول العربية عندما خضعت لشرط إيران استبعاد سياساتها الإقليمية عن المفاوضات النووية.
رئيس الاستخبارات البريطانية الأسبق السير جان سكارلت، قال أثناء مشاركته في الحلقة المستديرة الافتراضية الرابعة والعشرين لقمة بيروت انستيتيوت في أبو ظبي إن “هناك ردود فعل إيجابية على انتخاب جو بايدن لأنه أكثر قابلية للتنبؤ وأكثر واقعية في سلوكه وتوقعاته” من دونالد ترامب. إنما، أضاف سكارلت، يجب التوقف عند واقع لافت وهو “أن الرئيس ترامب حصل على ثاني أعلى نسبة أصوات لأي مرشح للرئاسة” نسبتها 74 مليون صوتاً “والرسالة كبيرة هنا للعالم” يجب أخذها في الحساب بالذات في أوروبا.
شارك في تلك الحلقة (https://www.youtube.com/watch?v=X9c4JjeUHcI&t=2s) كل من رئيسة تحرير “ذا ناشونال” مينا العريبي، والمؤسسة ورئيسة إدارة Mos.com أميرة يحياوي، ووليام ريتشاردز الخبير المخضرم في الصناعة المالية العالمية الذي اعتبر ان انتخاب جو بايدن يشكّل نقطة انحراف inflection أساسية للولايات المتحدة الى جانب نقطة الانحراف الأخرى المُتمثِلة في العثور على لقاح لكوفيد-19. وقال إن هاتين النقطتين تشكلان دفعاً اقتصادياً مُدوياً “وأنا في منتهى التفاؤل وأعتقد أن فرص الاستثمار ضخمة إن كان ذلك في مشروع Venture أو في الأسواق المالية العالمية. فهذا وقت رائع وهناك الكثير من الضجيج الذي يخفي ما يحدث بالفعل”.
ذلك التفاؤل برئاسة بايدن لا يشقّ طريقه بسهولة الى المنطقة العربية بالذات بسبب القلق الجدّي مما يحمله فريق بايدن لجهة السياسة الأميركية نحو الجمهورية الإسلامية الإيرانية وانعكاساتها على العراق، على سبيل المثال.
مينا العريبي كانت صريحة وواضحة بقولها إن “إيران لم تكن لتتمكّن من البقاء في وجه العقوبات لو لم تقم باستنزاف ونهب milk العراق على كل المستويات”. رأيها أن “الإيرانيين باتوا أضعف في هذا المنعطف وما زالت تداعيات قتل قاسم سليماني قائمة. فالميلشيات داخل العراق، وكذلك “حزب الله” الى حدٍ ما، باتا أضعف مما كانا عليه قبل سنة أو قبل 4 سنوات. وبالتالي، إن فرض ضغوط أكبر على هؤلاء الوكلاء وفرض ضغوط خارجية على إيران التي تدعمهم هو تماماً ما سيفعله الأميركيون ليثبتوا أنهم لا يتحدثون حصراً عن المسألة النووية وإنما عمّا تقوم به إيران داخل مختلف الدول” العربية.
لنرى ان كان هذا ما يجول حقاً في ذهن جو بايدن وفريقه، وعسى أن يكون. إنما الأجواء التي نقلتها مصادر مطلعة على التفكير في طهران تُفيد بأن القيادات الإيرانية واثقة من أن بايدن سيُلبّيها بقدر ما لبّاها الرئيس الأسبق باراك أوباما ونائبه حينذاك جو بايدن، بل وأكثر. “انهم في حالة ارتياح كبير ويشعرون بالحرية” قال المصدر، مشيراً الى أجواء صنّاع القرار في طهران في أعقاب وضوح فوز بايدن بالرئاسة الأميركية. قال “إنهم على ثقة كاملة بأن بايدن سيرفع العقوبات عن إيران، وإنه ستكون هناك صفقة جديدة تبدو أكثر ليونة، وأن إدارة بايدن ستنقلب على كل شيء فعلته إدارة ترامب وفق برنامج زمني لإلغاء سياساته الخارجية”.
فريق ترامب يُدرك ما يجري ولذلك وضع سياسة فرض عقوبات غير قابلة للرجوع عنها irreversible ينوي إطلاقها خلال الأسابيع المقبلة. انها معركة العقوبات التي تخوضها إدارتان أميركيتان وتستثمر فيها إيران. وبحسب تأكيد المصادر “يتوقع الإيرانيون رفع العقوبات عنهم مع حلول منتصف شباط (فبراير)، ويبدو أن هناك طبخة قيد الإعداد وراء الأبواب المغلقة. فهذه فرصة عالية المخاطر high stakes لإيران تتمثل في إزالة إدارة بايدن سياسة الضغوط القصوى وإزالة العقوبات”.
لعل هذه مجرد تمنيات إيرانية أو بالون اختبار تبعثه طهران للإيحاء بأنها جاهزة للصفقة الكبرى شرط أن تبقى الصفقة ثنائية مع الولايات المتحدة الأميركية. ولعلّ دولة ثالثة تقوم فعلاً باستضافة القناة السرّية بين فريق إيران وفريق بايدن كما سبق وفعلت عُمان، وهذا ما لمّحت اليه المصادر. هذه مرحلة فائقة الأهمية للنظام الحاكم في الجمهورية الإسلامية الإيرانية لا سيّما وأن الانتخابات الإيرانية ستعقد في حزيران 2021.
لا بد وأن هناك هامشاً للمناورة وللأخذ والعطاء في مفاوضات على هذا المستوى من الأهمية بين واشنطن وطهران. لعلّ طهران ستقدم ضمانات نووية وصاروخية تجعل إدارة بايدن جاهزة للتضحية كليّاً بناحية التوسع الإيراني في الجغرافيا العربية عبر الميليشيات وناحية حقوق الإنسان داخل إيران. ولعل إدارة بايدن تفاجئنا وتضع احترام السيادة وحقوق الإنسان على الطاولة النووية. سنرى.
وكما قالت أميرة يحياوي “سيكون لافتاً ومثيراً للفضول ماذا ستأتي به السنوات الأربع المقبلة بالذات لجهة انتقام المهمّشين Misfits and Nerds، ولجهة أهمية الإصغاء اليهم وأخذهم في الاعتبار لأنهم لا يطالبون بل انهم واقعياً يُمسكون بالسلطة”. فالسياسة لم تعد تُصنع في وزارات الدول وإنما في وادي سيليكون حيث يقرّر المهمّشون سابقاً اليوم إن كان ما يريد قوله الرئيس الأميركي يستحق الاهتمام أو اقفال الأبواب في وجهه.