وهنا أبرز ما جاء في النصوص حرفيا:
“بعد استقالة الرئيس المصري (حسني مبارك) ارتفع منسوب واهمية التظاهرات في دول أخرى مع إمكانية التغيير التي راحت تكتسب مصداقية اعلى. توصلت بعض الأنظمة الى تقديم تنازلات رمزية للمتظاهرين متفادية بذلك الانتفاضات والتصفيات: ألغت الجزائر قوانين الطوارئ القائمة منذ 19عاما، وأدخلت المملكة المغربية إصلاحات دستورية رافعة ولو بشكل بسيط سلطات البرلمان المنتخب، ولم يتأخر ملك الأردن في السير في هذا الركب أيضا. لكن كثيرا من القادة العرب، تعلّموا الدرس من الأحداث المصرية، واقتنعوا بضرورة سحق التظاهرات بصورة منظمة وبلا شفقة، مستخدمين العنف الضروري، ضاربين بعرض الحائط ما سيقوله المجتمع الدولي.
سوريا والبحرين متشابهتان ولكن
بين هذه الدول، شهدت سوريا والبحرين على الأرجح، أعلى درجات العنف. في الحالتين، كان الانقسام الديني عميقا، وكانت أقلية تحكم وتتمتع بالأفضلية فيما الغالبية تقبل ذلك على مضض. وفي آذار/مارس 2011، كان توقيف وتعذيب 15 تلميذا بذريعة انهم كتبوا شعارات مناهضة على حيطان مدينتهم (درعا) قد أطلق تظاهرات معارضة بين صفوف الناس ذوي الغالبية السنية ضد النظام العلوي بقيادة بشار الأسد. لم ينجح استخدام الغاز المسيل للدموع وخراطيم المياه والضرب والتوقيفات الجماعية في اسكات التظاهرات، وحينها شنت قوات أمن الأسد عمليات عسكرية حقيقية في عدد من المدن، وأطلقت الرصاص الحقيقي واستخدمت الدبابات.
في الوقت نفسه، وكما توقّع بن زايد (ولي عهد الامارات محمد بن زايد) ففي البحرين البلد الصغير، اندلعت تظاهرات عارمة مُشكّلة خصوصا من الشيعة، فردّ عليها الملك حمد بن عيسى آل خليفة بالقوة، ما أدى الى سقوط عشرات القتلى ومئات الجرحى، وحين وجد أن كل هذا العنف قد جاء بنتائج معاكسة وغذى التظاهرات، فان حمد، الذي كان في وضع لا يُحسد عليه، اجتاز عتبة غير مسبوقة، طالبا من السعوديين والاماراتيين مساعدته على احتواء شعبه.
رحتُ انا والفرق العاملة معي، نمضي الساعات بحثا عن كيفية تغيير مجرى الأحداث في سوريا والبحرين. للأسف، كانت خياراتنا محدودة. كانت سوريا خصما للولايات المتحدة الأميركية منذ فترة طويلة، وحليفا تاريخيا لروسيا وإيران، وداعما لحزب الله. ولذلك، وبدون تأثير اقتصادي، عسكري وديبلوماسي كما شأننا في مصر، فان شجبنا الرسمي للنظام ليس له تأثير كبير (وهو ما انطبق لاحقا حتى على حصارنا). كان الأسد يستطيع الاعتماد على روسيا لفرض فيتو (حق النقض) على كل محاولاتنا لدفع مجلس الأمن الى فرض عقوبات عليه.
أما في حالة البحرين، فكانت المشكلة بالعكس تماما. ذلك ان البحرين هي حليفة قديمة، وتستضيف الاسطول الخامس للولايات المتحدة. وقد سمحت لنا تلك العلاقة في ممارسة ضغط خاص على حمد ووزرائه، بغية تحقيق على الأقل بعض المطالب الشعبية ووضع حد لعنف الشرطة. لكن مسؤولي البحرين كانوا ينظرون الى التظاهرات على أنها من صنع أعداء وتحت تأثير إيراني ويجب قمعها. راح النظام يحاول لي ذراعنا بالاتفاق مع السعوديين والاماراتيين، وكنا ندرك اننا سنكون امام الأمر الواقع، فليس بإمكاننا السماح بإضعاف موقعنا في الشرق الأوسط عبر استعداء ثلاث دول في الخليج.
ليس العام 2011 هو الذي دفع الى التشكيك بتأثيرنا على سوريا، بل حصل ذلك في ما بعد. ولكن، وبرغم تصريحاتنا الشاجبة للعنف في البحرين وجهودنا لفتح حوار بين الحكومة وقادة المعارضة الشيعية المعتدلة، تعرضنا لانتقاد كبير لأننا لم نقطع الجسور مع ملك البحرين، خصوصا بالمقارنة مع موقفنا في مواجهة مبارك. كان من المستحيل بالنسبة لي شرح عدم انسجامنا بصورة محترمة، الا من خلال القبول بأن العالم هو كيسٌ من العُقّد، وبأني في قيادتي لسياستي الخارجية، كنتُ مضطرا بصورة دائمة على الموازنة بين المصالح المتناقضة، المصالح التي قولبتها خيارات الحكومات السابقة، وبين متطلبات اللحظة، وأنه حتى لو أني لم انجح في تفضيل الحقوق الأساسية، فان هذا لا يمنعني من محاولة القيام بكل ما استطعت، حين أستطيع، للتركيز على ما اعتبره قيمنا العالية. ولكن ما الذي يحصل إذا ما بدأت حكومة بسحق وقتل مواطنيها بالآلاف، وكانت الولايات المتحدة الأميركية قادرة على منع ذلك؟
وفيما فاجأت جامعة الدول العربية الجميع بإعلانها الموافقة على تدخل دولي في ليبيا، وهي طريقة لتحويل الأنظار عن خرق الحقوق الأساسية التي تمارسها دولها، فان دولا مثل سوريا والبحرين كانتا ما تزالان دولتين مقدّرتين في الجامعة.
ليبيا والاجتياح والبيتزا
في خلال ثمانينيات القرن الماضي، كانت حكومة معمّر القذافي واحدة من أبرز عرّابي الإرهاب العالمي. ساهمت في اعتداءات دموية مثل الذي حصل فوق لوكربي عام 1988، من خلال تفجير طائرة “بانام” الذي تسبب بقتل رعايا 21 دولة بينهم 189 أميركيا. لكن منذ بعض الوقت، كان القذافي يحاول ارتداء ثياب محترمة، عبر التوقف عن تمويل الإرهاب الدولي، والتخلي عن برنامجه النووي الوليد، مقابل استئناف الدول الغربية وبينها الولايات المتحدة علاقاتها الدبلوماسية مع نظامه، أما في داخل الحدود الليبية فلا شيء تغيّر.
بعد أسبوع من استقالة مبارك في مصر، فتحت قوات أمن القذافي النار على مجموعة من المدنيين الذي اعترضوا على توقيف محامٍ. وفي بضعة أيام، انتشرت التحركات الاجتماعية، وقُتل أكثر من 100 شخص. وبعد أسبوع كانت البلاد في حالة عصيان مفتوح، والقوى المناهضة للحكومة سيطرت على بنغازي، المدينة الثانية في البلاد. وبدأ ديبلوماسيون ليبيون وقدامى المؤيدين للقذافي وبينهم السفير الليبي في الأمم المتحدة بالاستقالة ودعوة الأمم المتحدة للتدخل ومساعدة الشعب الليبي. ورفع القذافي شعار احراق كل شيء. وهكذا، ما ان حل شهر آذار/مارس حتى كانت حصيلة القتلى قد ارتفعت الى أكثر من ألف ضحية.
أرعبتنا تلك المذبحة، فقررنا وضع كل ما ينبغي، ما عدا اللجوء الى الجيش، لتوقيف القذافي، ودعوته للانسحاب من السلطة بذريعة انه ما عاد يتمتع بأي شعبية، وجمّدنا مليارات الدولارات التابعة له ولعائلته، ودفعنا مجلس الأمن لحصار ليبيا ونقل القضية الى المحكمة الجنائية الدولية، بغية محاكمة القذافي وآخرين بالجرائم ضد الإنسانية. لكنه استمر. وكانت تقديرات محللينا، تقول انه اذا وصلت قواته الى بنغازي، فإنها قد تقتل آلاف الأشخاص.
مصالح أميركا أهم من موت الأبرياء
في الوقت نفسه، فان المنظمات غير الحكومية، وبعض الصحافيين، بدأوا بإسماع أصواتهم، وانضم إليهم لاحقا سريعا الكونغرس ومجمل الصحافة، طالبين من الولايات المتحدة الأميركية التدخل العسكري ضد القذافي. وكنت أرى في ذلك بعض التقدم الأخلاقي. فتقليديا، لم تكن فكرة ارسال قوات لمنع حكومة من قتل شعبها قابلة للاستماع، ذلك ان عنف الدول كان أمرا دارجا، ولأن أصحاب القرار الاميركيين، ما كانوا يعتبرون ان موت الأبرياء في كمبوديا، أو الارجنتين، او اوغندا له أي علاقة بمصالحنا، ولأن الآخرين كانوا حلفاءنا في خلال الحرب الباردة (وهذا ينسحب على الانقلاب الذي دعمته CIA ضد الحكومة الشيوعية في اندونيسيا في العام 1965، قبل ان نذهب، امي وانا، للعيش فيها، وهو الانقلاب الذي انتهى بحمام من الدماء وتسبب بقتل ما بين 500.000 ومليون قتيل)، لكن في التسعينيات، وفيما صارت تلك الجرائم تظهر مباشرة في الاعلام الدولي، وكانت الولايات المتحدة قد أصبحت القوة العظمى الوحيدة في العالم، جرت إعادة تقييم لتلك العقيدة (عدم التدخل) وقادت الى التدخل الناجح للولايات المتحدة والأطلسي في البوسنة.
مع ذلك، وبرغم ان غريزتي كانت تدفعني لإنقاذ الأبرياء المهددين من قبل المستبدين، ترددت في إعطاء الأمر بعمل عسكري في ليبيا.. فلماذا يكون التدخل في ليبيا مثلا وليس في الكونغو، حيث تتوالى النزاعات التي أدت الى قتل ملايين الأبرياء. هل ينبغي التدخل فقط حيث لن تكون أي خسارة لأميركيين؟
في هذا الوقت كان الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، الذي يتعرض لانتقادات قاسية في فرنسا لأنه دعم حتى النهاية نظام (زين العابدين) بن علي في تونس، قد قرر فجأة دعم قضية الشعب الليبي. وضع يده بيد (رئيس وزراء بريطانيا) دايفيد كاميرون وأعلن عزمه على اقتراح مشروع قرار في مجلس الأمن يسمح للتحالف الدولي بإقامة منطقة حظر جوي فوق ليبيا. لكن مايك مولين قال لي اننا لا نستطيع ان نفعل شيئا عبر تلك المنطقة، ذلك ان القذافي يستخدم بشكل شبه دائم القوات البرية، وبالتالي فان الوسيلة الوحيدة لمنعه من الهجوم على بنغازي كانت تقتضي استهداف قواته مباشرة من خلال الضربات الجوية. لكن مولين وغايتس كانا معارضين بشكل حازم التدخل العسكري الأميركي ويشيران الى الضغوط التي تتعرض لها قواتنا في العراق وأفغانستان، وكانا مقتنعين بانه برغم خطابات ساركوزي وكاميرون فان الجيش الأميركي سيتحمل القسم الأكبر من العملية.
كنتُ منزعجا من محاولات حشري من قبل ساركوزي وكاميرون، اللذين كانا يبحثان عن تلميع صورتيهما في بلديهما، ولم أكن أُكن سوى الاحتقار حيال نفاق جامعة الدول العربية.
(بعد ان يشرح أوباما كيف ان (مندوبة الولايات المتحدة في مجلس الأمن) سوزان رايس ساهمت باقناعه بضرورة التدخل العسكري لمنع القذافي من ارتكاب مجازر في بنغازي، وبعد ان استمع الى قياداته ومستشاريه العسكريين ، تم عرض مشروع قرار على مجلس الأمن بتوجيه الضربات وتعطيل أنظمة القذافي وهو ما حصل فعلا بموافقة 10أعضاء وامتناع خمسة بينهم روسيا).
ويقول أوباما:”اتصلتُ بساركوزي وكاميرون، اللذين بالكاد اخفيا ارتياحهما لخشبة الخلاص التي قدمتها لهما والتي ساهمت بإخراجهما من مأزقيهما في بلديهما، وقبلا اقتراحنا بحماسة، وبعد أيام اجتمعت كل عناصر العملية، وانضوى الأوروبيون تحت لواء الأطلسي، واما الدول العربية وبينها الأردن وقطر والامارات، فكانت كثيرة في ذاك التحالف بغية عدم إعطاء الانطباع باننا امام حرب جديدة تشنها القوة الغربية ضد العالم الإسلامي.
من البرازيل حيث كان يقوم بزيارة رسمية، اعطى أوباما أمر البدء بالعملية العسكرية، التي وخلافا لما كان رائجا يتبين ان أميركا هي التي اقترحتها وليس بريطانيا وفرنسا، وفي أثناء إعطائه الأوامر تعطّل جهاز الاتصال السري مع قيادة الأركان فاضطر أوباما للاتصال من خلال الهاتف العادي لأحد مستشاريه العسكريين. وقال:”لكم اذني” (للبدء بالعمليات) ويضيف: بهذه الكلمات الأربع You have my permission التي قلتها من هاتف كان على الأرجح قد استخدم لطلب شطائر البيتزا، ها أني، إسمح بعملية عسكرية، للمرة الأولى منذ تولي الرئاسة”. (الحلقة الخامسة والأخيرة.. حول العراق).