كما في الحرب كذلك في الانتخابات: طعم الخسارة مثل طعم الرماد في الفم، كما يقال. ومن الصعب على الحكام، خصوصاً الرؤساء الذين يخسرون معركة الولاية الثانية تحمّل الخسارة، وإن بدوا متماسكين عند تسليم السلطة.
جيمي كارتر عالج مرارة الخسارة أمام رونالد ريغان بإنشاء مؤسسة تشرف على الانتخابات في البلدان الأخرى، جورج بوش الأب رافقته المرارة على مدى عمره الطويل، وإن تصرف كرئيس و”جنتلمان” عند تسليم الرئاسة إلى بيل كلينتون بعدما قال في المعركة، “كلبتي ميلي أفهم منه في السياسة الخارجية”. ريتشارد نيكسون الذي خسر أمام جون كينيدي قال للصحافيين ساخراً، “لن تجدوا نيكسون بعد الآن لتركلوه”، ثم انتظر حتى فاز بالرئاسة في مرحلة لاحقة.
ونستون تشرشل بطل الحرب العالمية الثانية شرب ما سماه قاض أميركي “كأس البطولة المر” بعد خسارة الانتخابات البريطانية أمام المرشح العمالي كليمنت أتلي، ثم داوى المرارة بالسخرية قائلاً، “وصلت إلى مجلس العموم سيارة فارغة ونزل منها المستر أتلي”.
الآن دونالد ترمب الذي خسر أمام “جو النعسان”، فغاص في المرارة، وإن لم يعترف بخسارته، ولا يبدل في الأمر أنه رابح في معادلة لا سابق لها في أميركا، جو بايدن فاز بالرئاسة، وترمب بدأ بممارسة الزعامة.
عادةً، يخرج الرؤساء من البيت الأبيض إلى الظل، وكتابة المذكرات التي تدر ملايين الدولارات، ونادراً ما يكون لهم دور في السياسة. كارتر كتب “حفظ الإيمان”، كلينتون كتب “حياتي”، نيكسون كتب “مذكرات ريتشارد نيكسون”، ومجموعة كتب أخرى مهمة، بوش الأب، كتب جون ميتشام قصة رحلته “المصير والسلطة”.
باراك أوباما كتب مذكراته تحت عنوان “أرض الميعاد” الذي صدر أخيراً وجرى طبع 3.4 مليون نسخة لأميركا وكندا و2.5 مليون نسخة للقراء في العالم، وحصل سلفاً على 45 مليون دولار. أما ترمب الذي كتبوا عنه “فن الصفقة”، فإنه يتصرف على أساس أن مستقبله بدأ، لا انتهى. وهو يراهن على أن يكون زعيم تيار يميني واسع ومتشدد يضع الحزب الجمهوري في مشكلة بين الانفكاك أو اللا انفكاك عنه كأنه “ملك بلا ورثة”، ويضع أميركا ورئيسها الجديد في مواجهة معارضة متماسكة مستعدة للنزول إلى الشارع حتى بالسلاح، فضلاً عن أنه يخطط للترشح للرئاسة من جديد في العام 2024.
الكل يحاول تفسير هذه الظاهرة، روبرت هارت في كتاب “ترمب ونحن: ماذا يقول، ولماذا يصغي الشعب”، يقول إن “الرجل مزاجي، فجّ عاطفياً ومحتاج دائماً إلى الحب. مملوء بمخاوف لا يعترف بها”، ويشعر أنه “مُتجاهل، وفي فخّ، ومحاصر من النخبة، وغير محبوب، ولا تحتمله الاستبلشمنت”.
هو نفسه قال في مهرجان انتخابي في بنسلفانيا، “أرجوكم أحبوني، فليس لدي وقت طويل”. برونو ماكايز يرى في كتاب “التاريخ بدأ ولادة أميركا جديدة” أن رئاسة ترمب “بدت ليس كحدث في التاريخ السياسي لأميركا بل كحدث في تاريخ التلفزيون”. ومن يلومه على “انقطاعه عن الواقع”، ينسى أن “هذا رأسماله الذي قاده إلى البيت الأبيض”، ويؤكد أن “السياسة اليوم ليست بين اليمين واليسار بل بين الخيال والواقع”.
لكن ما يخيف ترمب أكثر من أي شيء هي الدعاوى التي تنتظره بعد خروجه من البيت الأبيض، دعاوى مدنية وجزائية في نيويورك، دعاوى تحرش جنسي أغلق ملفاتها وزير العدل التابع له، دعاوى تهرب من الضرائب الفيدرالية، دعوى من شقيقته التي حرمها من إرث الوالد، ومطالبات بتسديد ديون على شركاته بلغت 421 مليون دولار. من هنا رهان خصومه على أن بداية زعيم ستكون نهاية غشاش. كثيرون قبله تصوروا أن هذا زمنهم، فوجدوا أنفسهم في ما يشبه النسيان. إذ قبل سنوات بدت سارة بالين كأنها نجمة المحافظين في الحزب الجمهوري، لكن الأحداث تجاوزتها. وإذا كان أوباما يقول إن الانقسام في أميركا اليوم أعمق مما كان عندما جاء ترمب وعندما جاء هو، فإن توحيد الأميركيين الذي جعله الرئيس المنتخب جو بايدن أولوية يصطدم بتراث ترمب في الحكم بالتمزيق.
والتحدي كبير. ففي الشعر تستطيع لويز غليك التي حازت جائزة نوبل في الآداب أن تقول، “هل يجب أن يحدث الشيء لكي يكون حقيقياً؟”. أما في إدارة قوة عظمى، فإن الخيالية بدل الواقعية خطر جسيم على أميركا والعالم.