تحقيقات - ملفات
تييري ميسان: لم يعد أردوغان يرغب في أن يكون الإمبراطور العثماني الجديد بل الخليفة
بقلم تييري ميسان
من الخطأ اتهام الرئيس أردوغان بأنه يريد إعادة تأسيس الإمبراطورية العثمانية. بالنسبة له، غزو أراضي الغير ليس هدفًا بحد ذاته، بل وسيلة لإقامة تحالفات. وها هو بعد تردد طويل، يعتزم أن لايُطلق عليه لقب السلطان، بل الخليفة، وأن يصبح بالتالي زعيماً للسنة في جميع أنحاء العالم.
بعد شهر من هجوم أذربيجان على أرمن قره باغ، يتقدم الجيشان الأذري والتركي عسكرياً على الأرض، بينما تُراكم باكو وأنقرة انتكاسات دبلوماسية.
بشكل عام، كل شيء يسير كما توقعنا: أي التحضير لعملية للحلف ضد زعيم جماعة الإخوان المسلمين، رجب طيب أردوغان، والذي هو بالمصادفة رئيس تركيا.
وكان بامكان هذا الأمر أن يطلق منذ البداية مذبحة جديدة بحق الأرمن. بيد أن جهات فاعلة غير متوقعة تدخلت في هذه الحرب، أضف إلى ذلك نتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية غير المؤكدة، فخلقت اضطراباً في خطة واشنطن.
تركيا تراكم نزاعات بلا حلول
منذ إنشائها، أنكرت تركيا الحديثة الإبادة الجماعية لغير المسلمين (1894-95 و 1915-1923) ودمرت الكثير من الأدلة. ومع ذلك، تم العثور على وثائق تثبت أوامر الإمبراطورية العثمانية وجمعية تركيا الفتاة في عام 2018 .
منذ عام 1974، تحتل تركيا شمال شرق قبرص. وهي لا تزال موجودة هناك، على الرغم من حقيقة انضمام الجزيرة إلى الاتحاد الأوروبي في عام 2004. وبالتالي فإن الجيش التركي يحتل جزءاً من أراضي الاتحاد الأوروبي منذ 16 عاماً.
في عام 2012، نفذت تركيا لحساب الناتو عملية لإخلاء سوريا من السكان. وعرضت على سكان شمال البلاد اللجوء إليها بشكل مؤقت، ريثما ينجلي الموقف العسكري. فقامت ببناء عدة مدن جديدة لإيوائهم، لكنها لم تمنحهم حتى الآن إمكانية الوصول إلى تلك المساكن.
في عام 2012 ، اجتاحت تركيا شمال سوريا، ولا تزال تحتل محافظة إدلب. ثم قامت بنهب المعامل من حلب، وسرقة كل المعدات الموجودة فيها.
في عام 2013، تعرض السعودي ياسين القاضي “مصرفي القاعدة” لحادث سير في اسطنبول وكان برفقة مسؤول أمن الرئيس أردوغان. وذهب احد أبناء أردوغان لزيارته على الفور في المستشفى.
في عام 2014، درب الجيش التركي “الجهاديين” في سوريا، وهاجم معهم مواقع مختلفة، منها مدينة كسب الأرمنية، مما أجبر السكان على الفرار.
في عام 2015، قدمت المخابرات التركية كل المساعدات لداعش، بينما كانت شركة تابعة لصهر الرئيس أردوغان تدعى Powertans تنقل النفط الذي يسرقه الجهاديون إلى ميناء جيهان التركي. ومن هناك كانت شركة اشتراها نجل الرئيس أردوغان تُدعىBMZ Group Denizcilik ve İnşaat A.Ş تنقل النفط إلى إسرائيل والغرب. وبموازاة ذلك، كانت ابنة الرئيس أردوغان تدير مستشفى سرياً في شانلي أورفا لعلاج الجهاديين وإعادتهم للقتال.
في عام 2015، أقامت المافيا التركية التي يديرها رئيس الوزراء بن علي يلدريم، ورش عمل تقليد ماركات في المناطق التي يسيطر عليها داعش، ونقلت هذه البضائع إلى أوروبا.
وفي عام 2015 أيضاً، هددت تركيا بقسوة الاتحاد الأوروبي بإرسال مليون لاجئ من أفغانستان والعراق وسوريا إذا لم تحصل على إعانات كبيرة تسمح لها بمواصلة حروبها.
في 2015، رفضت تركيا إنهاء الاتفاقيات السرية مع فرنسا وبلجيكا لإنشاء دولة كردية في سوريا. ونظمت سلسلة من الهجمات ضدهم (138 قتيلا في فرنسا و 35 قتيلا في بلجيكا).
في 2016 رفض الجيش التركي مغادرة الأراضي العراقية على الرغم من طلبات الحكومة العراقية. كان لديها قواعد مؤقتة هناك منذ فترة الاحتلال الأمريكي، لكنها استخدمتها لدعم داعش ضد العراق. وما زالت تتمسك بها حتى الآن.
في عام 2017، شن الرئيس أردوغان حملة لدى الجاليات التركية في الخارج. فمُنع من عقد اجتماعات في هولندا وألمانيا. وبهذه المناسبة، وصف المستشارة أنجيلا ميركل بـ “النازية”.
في 2019 وقعت تركيا اتفاقا مع الحكومة الليبية في طرابلس، وأخرى مع تونس. وبدأت في إرسال “الجهاديين” المرابضين في المنطقة التي تحتلها في سوريا. وهم يقاتلون حالياً القوات الإماراتية الداعمة لحفتر في بنغازي.
في عام 2020، طالبت تركيا بحقول الغاز في البحر الأبيض المتوسط. لم تكن الحدود البحرية مع اليونان قد تم ترسيمها بدقة عند إنشاء الدولة. وبالتأكيد لتركيا الحق بعدة مناطق، لكن ليس كلها. وبهذه المناسبة هددت البحرية التركية البحرية الفرنسية.
من المؤكد أن هذه القائمة ليست شاملة.
الصراع بين الولايات المتحدة وتركيا
ألقت الولايات المتحدة باللوم على جماعة أردوغان بمجرد أن بدأ الأخير في شراء الأسلحة من روسيا وبناء خط أنابيب معها. ومنذ تلك اللحظة، شرعت الولايات المتحدة باسقاطه ديمقراطياً من خلال دعم حزب الشعوب الديمقراطي (HDP). لكن حزب العدالة والتنمية لم يتورع عن تزوير الانتخابات التشريعية في حزيران-يونيو ونوفمبر 2015، مما دفع وكالة المخابرات المركزية للقيام بعدة محاولات لاغتيال “الرجل العظيم” (الملقب ب رجب طيب أردوغان).
المحاولة الرابعة كانت في 15 تموز-يوليو 2016، ولأنها فشلت هي الأخرى، ارتجل الضباط الذين نفذوها انقلاباً عسكرياً، باء بالفشل أيضاً.
فراح الرئيس أردوغان يُصعد منذ ذلك الحين من استفزازاته مشدداً، في الوقت نفسه على عضوية تركيا في الناتو.
وهكذا، خلال رحلة رسمية، أمر بقمع مظاهرة لأتباع فتح الله غولن أمان سفارة بلاده في واشنطن من قبل جهاز الأمن الخاص به. بل وحتى قام بسجن مواطن أمريكي.
الخطة الأمريكية الحالية تقوم على دفعه نحو الخطأ، للحصول على دعم دولي ضده، على غرار ماحصل مع صدام حسين (عملية عاصفة الصحراء).
وبطبيعة الحال، لا يمكن أن يحدث مثل هذا السيناريو، إلا إذا ارتكبت مذبحة جماعية بحق الأرمن، وتم ضمان الاستمرارية في البيت الأبيض.
الرئيس أردوغان يقع في الفخ
على مدار الشهر، لم يتوانَ فرقاء أردوغان بالقول مراراً وتكراراً إن الناتو يحتاج إلى تركيا أكثر من العكس. وهذا يعني أن الحلف الأطلسي لن يستبعد تركيا أبداً من ناديه، وبالتالي لا يمكنه مهاجمتها.
لهذا يواصل “الرجل العظيم” هجومه على جميع الجبهات. ولذلك أرسل مستشارين عسكريين لتدريب خفر السواحل التابع للحكومة الليبية في طرابلس بدلاً من المستشارين الإيطاليين. وبهذه الطريقة راح يهدد الاتحاد الأوروبي بفتح أبواب الهجرة، ولكن هذه المرة من إفريقيا. أو شن هجمات “جهادية” ضد القوات الروسية في سوريا.
كانت موسكو الدولة الوحيدة التي ردت عليه حين أمر الكرملين باستئناف القصف في إدلب مع التركيز على مجموعة موالية لتركيا، وكانت مرتبطة سابقاً بالقاعدة، لكنها زعمت أنها انفصلت عن هذه الشبكة، وهو هجوم ينتهك نص اتفاقيات تفادي الصدام بين روسيا وتركيا، بينما يكشف خضوع الحركة “الجهادية” للسلطة الشخصية لرجب طيب أردوغان.
قبل كل شيء، فتح الرئيس أردوغان جبهة مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، عبر مواصلة شتمه، حتى أكثر من المستشارة ميركل قبل ثلاث سنوات. هذا الشجار أكبر بكثير مما يبدو: لأنه يذهب إلى جذر المشكلة.
حرب الحضارات لا تضع الإسلام في مواجهة المسيحية، بل مبدأين في مواجهة بعضهما البعض: دين الدولة أو حرية الضمير
وبعد الكثير من الأخذ والرد، هاهو رجب طيب أردوغان يحاول الإجابة على السؤال الوجودي لتركيا من خلال تعريفها على أنها وطن الإخوان المسلمين.
وخلافًا للاعتقاد السائد، فقد تخلى عن الأوهام العثمانية الجديدة لرئيس وزرائه السابق أحمد داود أوغلو (الآن في المعارضة)، وبنفس الطريقة تخلى عن المساحات الطبيعية التي هي، العالم الناطق باللغة التركية، والغرب (الاتحاد الأوروبي / الناتو)، على أمل توسيع سلطته في جميع أنحاء العالم الإسلامي، من خلال التمسك بمبدأ دين الدولة الذي ينوي أن يصبح من خلاله الخليفة.
من المهم هنا التذكير أن محمداً “ص” لم يكن مثل المسيح، نجاراً بسيطاً. لقد كان رجلاً سياسياً وقائداً عسكرياً حقق الانتصارات، وكذلك زعيماً روحياً أيضاً. وعندما توفي، انقسم أتباعه وتقاتلوا فيما بينهم. و”الخليفة” الذي تبعه، ورث سلطته الزمنية، وليس الروحية.
وبالمناسبة، العديد من الخلفاء الذين توالوا فيما بعد لم يكونوا يؤمنون بالله. وفي نهاية الحرب العالمية الأولى كان “الخليفة” هو الحاكم العثماني المقيم في القسطنطينية (اسطنبول). ولعل الشيء المثالي بالنسبة للإخوان المسلمين الآن هو استعادة الخلافة (القوة الزمنية للنبي) استناداً لقوانين عصر النبوة، الشريعة.
وعلى غرار الأوروبيين في القرن السادس عشر، يعتقد الإخوان المسلمون أنه يجب على الشعب أن يقتدي بدين الحاكم. وهذه رؤية للعالم تتعارض جذرياً مع مبدأ حرية الضمير الذي أرسته فرنسا منذ ردة الملك هنري الرابع 1593 والتوافق فيما بعد على العلمانية (1905 . ومن هذا المنطلق، يحاول رجب طيب أردوغان وجماعة الإخوان العودة إلى الوراء والقضاء على إرث مصطفى كمال أتاتورك، مؤسس تركيا.
لذلك من المنطقي جداً أن يختار الرئيس أردوغان نظيره الفرنسي بوصفه أحد خصومه. أما من سيحدد نتيجة المبارزة، فهي الولايات المتحدة.
فإما أن تمضي إلى الدفاع عن الإرث البريطاني لـ “الآباء الحجاج” (جو بايدن، جاستن ترودو) أو إرث المهاجرين القادمين من القارة العجوز (دونالد ترامب).
في الحالة الأولى، سيتمسكون بوجود تركيا داخل الناتو.
وفي الحالة الثانية، سيدافعون عن مبدأ التعايش الديني حتى يفشل مشروع الخلافة.
المصدر: فولتيير