ما بعد عون…
مساء يوم الجمعة 22 آذار 2013 أعلن الرئيس نجيب ميقاتي استقالة حكومته. كان تبقّى من عهد الرئيس ميشال سليمان مدة عام وشهرين كان يجب ملؤها بحكومة جديدة قد تجوز معها المقارنة، بمحاولة تشكيل الحكومة الجديدة التي ستملأ ما تبقى من عهد الرئيس عون.
حكومات واتجاهات
ثلاث حكومات تعاقبت في ولاية الرئيس سليمان. حكومة الرئيس سعد الحريري التي أتت بعد انتخابات العام 2009 وانتهت باستقالة وزراء “التيار الوطني الحر” و”حزب الله” في 12 كانون الثاني 2011، قبل أن يدخل الحريري البيت الأبيض للقاء الرئيس باراك أوباما. هذا الإنقلاب على حكومة الحريري كان يجب أن يكتمل بانقلاب لتشكيل حكومة لا تعكس رأي الأكثرية النيابية التي كانت مؤيّدة لقوى 14 آذار. لتحقيق هذا الأمر كان لا بدّ من قلب موازين القوى عبر تغيير موقف الحزب “التقدمي الإشتراكي” والنائب وليد جنبلاط بعد تأجيل الإستشارات النيابية. هكذا تمّ تكليف الرئيس نجيب ميقاتي ليعكس طبيعة هذا الإنقلاب. تماماً كما حصل مع تشكيل حكومة الرئيس حسّان دياب في بداية العام 2020 بعد ثورة 17 تشرين، التي فرضت استقالة الرئيس سعد الحريري وحكومته نتيجة رفض الأكثرية النيابية المؤيدة لـ”حزب الله” و”التيار الوطني الحر” أن تأتي حكومة مستقلة على عكس ما فعلوا في العام 2011. هناك كان الإنقلاب مسموحاً وهنا كان مستحيلاً.
بعد عامين فقط وجد الرئيس نجيب ميقاتي نفسه في الطريق المسدود. تجربة عامين في الحكم وفي السراي كانت مخيّبة للآمال. المشكلة الظاهرة التي كانت وراء قراره بالإستقالة هي رفض محور “حزب الله” والعماد عون التمديد للواء أشرف ريفي في المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي، والخلاف حول تشكيل هيئة الإشراف على الإنتخابات النيابية قبل أن يتم تعديل قانون الإنتخابات. كان هناك من يريد اعتماد قانون الستين بينما كان محور “حزب الله” وعون يهدّد بالذهاب إلى القانون الأرثوذكسي. سقطت حكومة ميقاتي عندما تبلّغ من “حزب الله” أنّه يمكنه أن يفعل ما يشاء بعدما أوصل إليه أنّه يريد أن يستقيل. ذهب إلى السراي وأعلن استقالة حكومته. تلك النهاية كانت أيضاً نهاية سيّئة لتجربة حاول “حزب الله” فرضها. ميقاتي دعا في إعلان استقالته إلى تشكيل حكومة إنقاذ. ولكنّ أيّ إنقاذ لم يحصل، ومثل هذه الحكومة هي المطلوبة اليوم وهي الممنوعة من التشكيل.
كما انتهت حكومة ميقاتي انتهت حكومة الدكتور حسّان دياب. محور “حزب الله” والرئيس عون أراد أن تكون حكومة دياب حكومة أكثرية نيابية يمثّلانها ولكنّها انتهت أيضاً إلى فشل. بعد انفجار المرفأ وتهديد حكومة دياب بالمحاسبة ذهب دياب إلى السراي وأعلن استقالته.
إستقالة ميقاتي كانت لها أسباب مخفية. كان قد تبلّغ من جهات خليجية رفض مشاركة “حزب الله” في الحكومة وكانت هناك أيضاً شروط أميركية تصبّ في الإتجاه نفسه، خصوصاً بعد اتّهام “الحزب” بأنّه وراء التفجير الإرهابي الذي حصل في مطار بورغاس في بلغاريا مطلع العام 2013. يومها قيل إن السفيرة الأميركية مورا كونيلي أبلغت المسؤولين الرسميين أن على “حزب الله” الخروج من الحكومة. كان كلّ ذلك يحصل بينما لم يكن لبنان قد دخل مباشرة في الإنهيار التام. كان هناك مجال لهدر بعض الوقت. على هذا الأساس تمت الإستعانة بالرئيس تمّام سلام. اليوم لا يبدو أن اللغة الأميركية تغيّرت. تغيّرت السفيرة فقط. والمشكلة لا تزال هي نفسها.
العودة إلى خيار تمّام سلام كانت شبه عودة إلى خيار سعد الحريري ولكن من دون عودته شخصياً. تماماً كما كان يحصل بعد استقالة حكومة حسّان دياب عبر اقتراح تكليف من يسمّيه الحريري. تمّام سلام عاد من المملكة العربية السعودية رئيساً مكلّفاً للحكومة قبل أن تحصل الإستشارات، وبعدما كان التقى مسؤولين سعوديين والرئيس سعد الحريري في الرياض وتمّت تسميته أولاً من بيت الوسط. ولكن بين تكليفه رسمياً في 6 نيسان 2013 وبين تمكّنه من تشكيل الحكومة في 15 شباط 2014 أطول مسافة فاصلة بين التكليف والتأليف. لم تكن المشكلة في تقاسم الحصص فقط، بل في أن هذه الحكومة ستتولى السلطة بعد انتهاء ولاية الرئيس ميشال سليمان. كان هناك شبه اقتناع بأنّ الفراغ الرئاسي حاصل حتماً وأن لا رئيس للجمهورية بعد سليمان.
تكرار التجارب
اليوم مع تكليف الرئيس سعد الحريري يتمّ التعاطي مع عملية تشكيل الحكومة على قاعدة أن لا انتخاب لرئيس للجمهورية بعد انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون. أكثر من ذلك بدأت الإشارات تُظهر اتجاهاً إلى عدم إجراء الإنتخابات النيابية في موعدها الدستوري في ربيع العام 2022 قبل ستة أشهر من انتهاء العهد.
هكذا تمّ الإنتقال من حكومة سعد الحريري إلى حكومة نجيب ميقاتي إلى حكومة تمام سلام إلى الفراغ في العام 2014. وهكذا يبدو أن الأمور ستسير من حكومة سعد الحريري إلى حكومة حسان دياب إلى حكومة سعد الحريري إلى الفراغ في العام 2022. ولكن مع فارق كبير وهو أن لا مجال للرهان على الوقت طالما أن لبنان ينتظر من ينتشله من الهاوية.
تجربة حكومة تمّام سلام كانت أسوأ من تجربة حكومة ميقاتي. مرحلة ما بعد انتهاء ولاية الرئيس ميشال سليمان كانت كارثية. ولذلك يبدو أن التفكير بتكرار تجربة الفراغ في رئاسة الجمهورية بعد انتهاء ولاية الرئيس عون ضرب من الجنون والإنتحار. هذا إذا كان من الممكن أن يتم عبور هذه المسافة الزمنية الباقية قبل انتهاء الولاية، من دون أن يكون هناك انهيار مرعب ومدوّ يطيح بكل ما تبقى من أسس الدولة والنظام والمؤسسات.
قبل أن تحصل الإنتخابات الرئاسية في أميركا كان هناك من يربط تأخير تشكيل الحكومة في لبنان بهذا الموعد. أما وقد حصلت هذه الإنتخابات فقد انتقلت عملية الربط إلى موعد تسلّم الرئيس المنتخب ولايته في 20 كانون الثاني المقبل. بعد هذا التاريخ قد يأتي من يريد أن يربط التشكيل بانتظار السياسة التي سينتهجها الرئيس الجديد تجاه إيران والمنطقة. إذا كان محور “حزب الله” عون قد أصيب بنكسة كبيرة نتيجة الضغوط الأميركية والدولية المتصاعدة، وإذا كان تعرّض لضربة قاسية مع العقوبات التي فرضت على رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل، فإنّ هذا المحور لم يقتنع بعد بأهمية أن يترك تسيير عملية الإنقاذ من خلال حكومة مستقلة في توجهاتها وخياراتها. وهذه الإستقلالية لا تعني أبداً أنّها ستكون حكومة معادية لهذا المحور الذي يستمرّ في التصرّف معتمداً على قاعدة تقول: “إذا لم تستطع أن تحكم فلا تسمح لغيرك أن يحكم”.
عون بين الربط والحل
كان من المفترض أن يشكّل انتخاب العماد عون رئيساً للجمهورية بداية طريق لتعديل طريقة إدارة الدولة والخروج من الأزمة الإقتصادية قبل أن تنفجر، وأن يتمّ تحقيق التوازن الداخلي. ولكن بدل كل ذلك ذهب العهد منذ بدايته في اتجاه تأمين خلافته وعمل على حصر الخيار بالوزير جبران باسيل. عندما يسقط هذا الإحتمال يصبح خيار التعطيل هو البديل.
قبل انتهاء ولايته أعلن الرئيس ميشال سليمان سقوط المعادلة الخشبية “جيش وشعب ومقاومة” الأمر الذي أدى إلى استهداف القصر الجمهوري بصواريخ سقطت في محيطه. قبل انتهاء ولاية الرئيس عون لا يبدو أننا سنقترب من تكرار هذه المحاولة. قد يبدو الأمر مستحيلاً لأنّه غير وارد في حساباته. لا يزال يعتبر أنّ “حزب الله” يشكل حماية له ولعهده. ولا يزال يرفض أن يتخلّى عن التحالف مع “الحزب” من أجل أن يكون البديل إنقاذ لبنان. وإلّا ما الذي لا يزال يمنعه من أن يكون عرّاب تشكيل حكومة مستقلّة ومستقلّين تنقذ عهده وتنقذ لبنان وتمنع سقوط “حزب الله”؟ إلّا إذا كان يريد فعلًا أن تكون نهاية عهده نهاية للنظام وأن يكون آخر رئيس للجمهورية. حتى لو كان يريد ذلك هو أو غيره يبقى النظام أقوى من هذه الرهانات، لأنّ هناك قوى لا تزال تؤمن بقوة هذا النظام وبالقدرة على الخروج من الأزمة وبمقاومة محاولة السيطرة على لبنان، وبأنّ رئاسة الجمهورية هي المؤتمنة على هذا النظام وعلى الدستور وبأنّها فوق كل الرئاسات، ولا يمكن لأي رئيس أن يبدّل في مهمّتها وفي قسم اليمين الذي يؤديه بعد انتخابه.